رغم أنني تتلمذت على يد شيخ مخرجي المسرح المصري الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني، واعتبر نفسي أحد تلاميذ مدرسة الأستاذ كمال يس، ورفقتي بالأستاذ الكبير نبيل الألفي طالبا ومعيدا مصاحبا له.. وعلاقتي الفكرية والعلمية برجل المسرح العربي أستاذي سعد أردش.. وغيرهم من أساطين الإخراج المسرحي في مصر والعالم العربي، فإن البصمة التي تركها الأستاذ جلال الشرقاوي أستاذا ومعلما وأبا روحيا ومخرجا كان لها عظيم الأثر في اكتمال شخصيتي الفنية والعلمية.
شهد بل وشارك الأستاذ جلال الشرقاوي كل مراحل صعودي وتطوري منذ كنت طالبا فمعيدا فمدرسا مساعدا فمدرسا فأستاذا مساعدا ثم أستاذا.. وبعدها رئيسا للقسم.. ووكيلا للمعهد.. ثم عميدا.. والطريف في الأمر أن تعامل الأستاذ جلال معي كأب وأستاذ لم يختلف كثيرا، مذ كنت طالبا.. إلا أنه اختلف بالتدريج مع كل مرحلة صعود لي.. ليقدم لي المثال نادر الوجود عندما لم يجد غضاضة في كون أحد تلاميذه المقربين وقد أصبح عميدا للمعهد الذي جلس على كرسي العمادة من قبله بحوالي أربعين سنة.. فهو لا يكف عن دعمي في مواقفي الإدارية والعلمية.. ويثق في قدراتي ويدفعني للأفضل.. ولكم هو شعور رائع لا يمكن وصفه أن أعيش تلك المشاعر في حضور الأستاذ جلال وأشكر الله علي أن أطال عمره ليعيش معي وأعيش معه كل لحظات العمر علي مدي ما يقرب من سبع وثلاثين عاما.. وأدعو الله أن يمتعه بموفور الصحة ولا نحرم من عطائه الذي لا ينضب.. بل يزداد كرما لا يكل ولا يمل في ممارسة دور المعلم على أكمل وجه، ورغم اختلاف الأجيال فإنه يتمتع بقدرة لاستيعاب كل المتغيرات التي طرأت على التقاليد وعلى الأخص الأخلاق.. ويمضي قدما لا تمنعه أي عوائق في القيام بدوره الأثير وهو التدريس للطلاب في المعهد العالي للفنون المسرحية.
فقد عملت معه بشخصيتين في آني واحد معيدا ملازما له في قاعات الدرس نهارا، ومساعد مخرج معه في المسرح ليلا، وبالرغم أنه من الصعوبة أن تفصل ذاتك شطرين مع نفس الشخص تارة أقوم بدور المعيد.. وبعدها بساعات أقوم بدور مساعد المخرج، ولم لا وهو الأستاذ جلال الشرقاوي الذي لا يخلط الأدوار، فهو في المعهد أستاذ ومعلم.... ويخرج إلي المسرح مرتديا عباءة المخرج المنفصلة تماما عن شخصية المعلم، وقد يكون ذلك عن قصد منه ووعي، أو ربما عن غير قصد!! وهو الأمر الذي كان يصيبني في كثير من الأحيان بالحيرة... وأنا أتعامل معه وفي الحالتين لم أكن أكف عن تأمله ومراقبته ودراسته.
والجدير بالذكر أن هناك شخصية ثالثة تعتمل في جسد الأستاذ جلال الشرقاوي، لا يعرفها كثيرون وهي شخصية الإنسان جلال الشرقاوي، الذي يوحي بكونه صارما قوي الشكيمة تهاب مواجهته... إلا أن هذا قناع يخفي رقة لم تكشف عن نفسها إلا خلسة أمام بعض المواقف التي جمعتنا سويا... وربما إصراره على إخفاء مشاعره الرقيقة معظم الوقت كان نابعا أولا من شخصية الأستاذ الذي لا يرضي بالقليل وهو يعلم طلابه بمنتهي الصبر والجلد أحيانا وبالقسوة في أحيان أخري ليستخرج منهم أقصي مواهبهم وإمكانياتهم، وهو أمر لا يشاركه فيه كثيرون من الأساتذة في تدريس التمثيل، والسبب الثاني في اعتقادي الذي يدفعه إلي إخفاء رقته وإنسانيته هو طبيعة عمله كمخرج أوتوقراط لا يعرف للديمقراطية ولا حرية الرأي مجالا في مجادلته في رؤيته الإخراجية..إن ما يراه هو الصواب في اعتقاده، وكأنه امتداد طبيعي لرواد الإخراج المسرحي في العالم من أمثال الدوق جورج الثاني دوق ساكس ميننجن الذي دشن لفن الإخراج وأوجد مهنة المخرج بعد غياب آلاف السنين، وكان من الطبيعي أن يكون مستبدا برأيه بحكم منصبه كدوق يمارس الإخراج، فمسح على مهنة المخرج بعض الصفات ومنها الاستبداد بالرأي وهو ما ورثه عنه مخرجون كثيرون من رواد المسرح المصري ممن تتلمذ على أيديهم أستاذنا جلال الشرقاوي.
إن المخرج جلال الشرقاوي الذي أعتبره علامة فارقة في تاريخ المسرح المصري بشكلي عام، وفي الإخراج المسرحي على وجه الخصوص، استطاع أن يتخذ لنفسه موقعا ومكانة متقدمة بل ومتصدرة من بين تشكيل فريق المخرجين المصريين سواء من الرواد الأوائل أو من تلاهم من أجيال، ويرجع ذلك إلي أنه ابتكر وأبدع صورا مسرحية لم يشاركه فيها مخرج من قبل، ولم يحصر نفسه في أسلوب أو منهج محدد.. بل تناول كل الأساليب وكل المناهج.. وبالرغم من أن الكباريه السياسي هو أحد الأشكال التي تميز بها كمخرج، فقد قدم السياسة في المسرح بأغلفة متعددة ولم يكن في لحظة أسيرا لشكل محدد، إن المخرج جلال الشرقاوي ينطلق في إبداعه من هم مجتمعي وسياسي، فهو دائما يواكب القضايا الملحة ويعرضها للجمهور... حتي استطاع أن يكون لاسمه الثقة من لدن جمهوره علي مدي سنوات طويلة من الإبداع.
وينهض أسلوب المخرج جلال الشرقاوي مستندا على عدة عناصر أساسية ومحددة، أهمها العنصر البشري، فهو يستقطب للعرض كل الفنانين والفنيين الذين سيحققون النجاح لتصوراته الإبداعية، ويبدأ في قيادة كتيبة المبدعين بصرامة فائقة، فهو يتدخل في الكلمة والحركة واللحن وبنفس القدر يتدخل في عمل المجاميع والعمال الذين يعتبرهم جزءا من تصميمه الإخراجي، حتي يحقق ذلك التناغم المنشود... بل والإيقاع الذي يتصوره، ولم لا وهو أستاذ الإيقاع.. وتكاد عروضه تتميز جميعها بإيقاع محسوب بمنتهي الدقة حتي في تغيير المنظر المسرحي، إن إخفاق أقل عنصر من عناصر منظومته الإخراجية يعد جريمة في نظر الأستاذ تدفعه إلي الثورة... رغم ما قد يراها آخرون شيئا عاديا يمكن تجاوزه... إن الأستاذ جلال لا يكشف عن مدي أهمية الأمر فكل الأمور مهمة بالنسبة له، ولكن عندما كنت أتأمل ثورته في المواقف المختلفة أظل أحلل وأدرس لأكشف عن السر من ورائها. وأضعها في موقعها الملائم لأصل في كل مرة لنفس النتيجة، وهي إصراره الشديد دون لين علي خروج ما اعتمل في مخيلته ورؤيته كما تصور أثناء إعداده للعرض المسرحي، وهذا يعني أن جلال الشرقاوي المخرج حول شخصية المخرج المستبد بشكل عام إلي شخصية المبدع المستبد الذي لا يرضي عن خروج قطعته الإبداعية إلا وهي علي أكمل وجه، وهو ما نشهد آثاره على ردود أفعال المتفرجين الذين ظلوا يحترمون مسرح جلال الشرقاوي على مدي عقود طويلة.. والجدير بالذكر إن كواليس مسرح جلال الشرقاوي تحتاج إلي آلاف المجلدات لسردها ولأهمية أحداثها على جميع المستويات وهو ما لا يتسع له مقامنا هذا.... وفي النهاية عندما نذكر كلمة "رجل المسرح" فهي كلمة يصنف تحتها بعض المخرجين المسرحيين سواء في مصر أو العالم. وليس جميعهم بالطبع إلا أن جلال الشرقاوي رجل المسرح بكل ما تحمل الكلمة من معان.
اترك تعليق