لا تزال صفقة الغواصات النووية بين الولايات المتحدة وأستراليا تلقي بظلالها على الساحة الدولية، بعد أن تسببت في أزمة دبلوماسية بين فرنسا وأستراليا من جانب وفرنسا وأمريكا من جانب آخر، عقب فسخ أستراليا تعاقدها مع باريس لشراء 12 غواصة فرنسية وفقا لاتفاق مبرم بينهما عام 2016، وهو الأمر الذي وصفته الأخيرة بـ "طعنة في الظهر" اعتراضا على إلغاء الصفقة، وإبرام تحالف ثلاثي بين أمريكا وأستراليا وبريطانيا.
فرنسا تلجأ إلى تعزيز التحالف مع روسيا والصين.. ردا على الضربة الأمريكية
وجاءت الأزمة بسبب اتفاقية تحالف أمنى، معروفة باسم أوكوس، بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا أدت لإلغاء صفقة غواصات فرنسية ضخمة بقيمة 37 مليار دولار لأستراليا.
وبموجب هذا التحالف، سوف تمنح أمريكا وبريطانيا لأستراليا التكنولوجيا اللازمة لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، بالإضافة إلى مشاركة القدرات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وتقنيات أخرى للعمل تحت الماء، وستكون أستراليا سابع دولة في العالم تشغل غواصات نووية.
ويرى المراقبون أن تبعات الأزمة الراهنة ولجوء أمريكا لتحالف ثلاثي مع المملكة المتحدة وأستراليا، وتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، تؤزم الخلاف بين أوروبا وأمريكا الذي جاء عقب أزمة الانسحاب من أفغانستان، وربما تؤدي تلك الخلافات إلى رسم تحالفات جديدة، خاصة مع تمسك عدد من دول الاتحاد الأوروبي بمقترح "تأسيس قوى عسكرية أوروبية" موازية لحلف الناتو.
وأدخل تحالف واشنطن مع لندن وكانبيرا العلاقات الأمريكية – الأوروبية في أزمة تشبه أزمات حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، رغم ان الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة جو بايدن استهدفت إعادة العلاقات مع أوروبا لسابق عهدها بزيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى باريس، يونيو الماضي لإعادة مسار "العلاقات العابرة للأطلسي" إلى أصلها القديم.
وتوالت ردود الفعل من الجانب الفرنسي، حيث أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية، الاتفاق مع الهند للعمل على برنامج "لترسيخ نظام دولي تعددى بحق"، يعزز الشراكة الاستراتيجية بينهما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لا سيما وأن فرنسا كانت تعتمد على علاقتها مع أستراليا والهند للحفاظ على وجودها في تلك المنطقة.
كما استدعت فرنسا سفيريها في كانبيرا وواشنطن، وألغت حفل استقبال كان مقررا في إقامة السفير الفرنسي في واشنطن احتفالا بذكرى معركة بحرية في حرب الاستقلال الأمريكية وانتهت بانتصار الأسطول الفرنسي على الأسطول البريطاني في نهاية القرن الـ 18.
وتستمر أستراليا في تبرير موقفها بالتأكيد على إبلاغ فرنسا مسبقا بوجود مشاكل حقيقية بقدرة الغواصات التقليدية لتحقيق أهدافها الأمنية والاستراتيجية في المحيطين، حيث قال وزير الدفاع الأسترالي بيتر دونون، إن بلاده كانت صريحة ومنفتحة وصادقة مع فرنسا بشأن مخاوفها من صفقة الغواصات الفرنسية.
ولم تكتفِ أمريكا بتصريحات أستراليا، بل أكد أنتوني بلينكن، على عدم التخلي عن أستراليا في مواجهة الممارسات الصينية لذا دعمتها بحيازة الغواصات النووية لتحسين قدرتها الدفاعية.
ويرى المراقبون أن فرنسا تفسر الموقف الراهن بـ "الحرب الباردة" نظرا لأن صفقة الغواصات بين أمريكا وأستراليا والتي أبرمت وفقا للتحالف العسكري الذي جمعهما مع بريطانيا خارج مظلة حلف الناتو له تبعات سلبية على أوروبا وفرنسا بالتحديد على المستويين العسكري والاقتصادي، كما أن باريس لم تعترض حينما طرح تشكيل هذا التحالف الدفاعي في المحيطين الهادئ والهندي وظنت أنها ستصبح شريكا في التحالف عبر تسليح أستراليا بالغواصات، قبل الإعلان عن إلغاء الصفقة.
وأوضح المراقبون أن طبيعة الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها باريس لعدم امتلاكها سوقا لبيع الغواصات، تدفعها إلى الشراكة مع الهند وتدشين علاقات قوية لبيع الأسلحة من مقاتلات الرافال والغواصات التي تعمل بالديزل والكهرباء، وهو الأمر الذي قد ينجم عنه خلاف بين الصين والهند من جانب، وخلاف بين الصين وأمريكا من جانب آخر لدخول غواصات نووية إلى منطقة المحيطين.
ويشير المراقبون إلى احتمالية تقارب فرنسي روسي جديد في مجال تصنيع وبيع الأسلحة، وبالتالي فهو تقارب أوروبي – روسي محتمل، حيث تعد فرنسا القائد السياسي لأوروبا في إقامة العلاقات مع الدول، علاوة على وجود تقارب ألماني – روسي نوعا ما، وفي حالة إثبات موسكو النوايا الحسنة لإقامة علاقات مشتركة مع باريس وبرلين قد تنضم دول أوروبا الشرقية إلى هذا التحالف.
ويتوقع المراقبون أن التقارب الروسي- الأوروبي المحتمل قد يسمح بإقامة مشاريع مشتركة ووصول الغاز الروسي إلى أوروبا، والذي يعد ضربة قوية لأمريكا لتصبح بمفردها مع تحالف "أوكوس" في مواجهة تهديدات الصين في المحيطين وفي جنوب الباسيفيك، خاصة وأن دول شمال وجنوب أوروبا لا تخشى الوجود الصيني في تلك المناطق.
ويشدد المراقبون على أن قرار باريس بسحب سفيرها من واشنطن مؤشر يرسم خارطة تحالفات جديدة في العالم. واعتبر وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، أن إلغاء أستراليا صفقة الغواصات معها واستبدالها بأخرى أمريكية سيؤثر مستقبلا على حلف الناتو.
ويرى المراقبون أن الأمر سيكون له تأثير على تحالف الناتو الذي يعمل على مواجهة التهديدات الصينية – الروسية، لاسيما أن فرنسا لديها تحفظات على دور الحلف في الحرب على الإرهاب، وتحملها أعباء مواجهة التنظيمات المتطرفة بمفردها في دول الساحل والصحراء وسوريا والعراق، مشيرا إلى أن أوروبا تدرك جيدا أن نتائج الحروب التي جمعت الناتو وأمريكا تحملتها وحدها.
وعن احتمالية خروج فرنسا من الناتو، يتوقع المراقبون أن فرنسا تمتلك نفوذا في الشرق الأوسط تسعى للحفاظ عليها، لذا ستتحرك الفترة المقبلة في سياسات مستقلة خارج حلف شمال الأطلسي لتسهل على نفسها إقامة علاقات عسكرية مع روسيا وتجارية مع الصين، متوقعا تراجع أهمية الناتو والتعاون العسكري بين الشركاء.
ويوضح المراقبون أن فرنسا وألمانيا تبحثان آلية جماعية للحفاظ على أمن أوروبا منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وبعد الصفقة الأمريكية تتصاعد الأصوات الآن داخل الاتحاد الأوروبي لتكوين قوة عسكرية موازية للناتو تمنحها استقلالية قرار الحرب والانسحاب، منوها إلى أن الموقف الأمريكي منح فرنسا سلاحا جديدا لإعادة نفوذها في الشرق الأوسط وملء الفراغ العسكري الأمريكي في العراق وسوريا.
اترك تعليق