في ذاكرة كل قاض.. قضية محفورة في وجدانه..تفاصيلها..أحداثها ..لم يمحها الزمن ..نسترجع مع قضاتنا الأجلاء بعضا من تلك القضايا .. لنأخذ العبر منها وكيفية معالجتها ورد رجال القضاء على ما يثيره المتهم ودفاعه مما يعتقد أنه حق له ، ولكنه يتضح أنه حق أريد به باطل .
يقول المستشار سامح عبد الله رئيس محكمة جنايات المحلة ، أنه تكمن بين أوراق القضايا الحقيقة بلا رتوش.. لا مجال لتجميل الأكاذيب هنا ولا مجال لإعطاء المأساة وجهاً غير وجهها المؤلم الحزين.. ففي قفص الاتهام وراء القضبان الحديدية كان يترقب جلسة المحاكمة بجسده الممتلئ ولحيته الكثيفة.
فى تلك اللحظات لن يتحدى بصوته الجمهور ولا بتلك القوامة التى فهمها خطأ ولا بتلك الذكورة التى لم توجد قط لكى يتسلط رجل على ضعف امرأة ولا أن تقهر قواه وهنها.
هذا الرجل الذى كان شاحذاً بصره يلتقط من بين المساحات الضيقة التى تفصل قضبانه الحديدية بعضها البعض يرقب قدوم زوجته وهى تتأهب لتدلى بشهادتها فى جريمة "فقئ" عنيها اليسرى من إثر التعدى عليها بقبضة يده.
الزوجة تعمل ممرضة فى إحدى المستشفيات العامة ولحاجة بيتها إلى المال أخذت قرض من أحد البنوك الوطنية بضمان وظيفتها.. كانت مرغمة على ذلك والزوج يأبى الإنفاق. . فهو لا يعرف عن القوامة غير التسلط والعنفوان الذى يصل إلى التجبر.
وما أن علم الزوج بأمر هذا القرض حتى قيد وثقتها ثم أوسعها ضرباً حتى انتهى به هذا العدوان إلى أن أفقدها البصر بعينها اليسرى مستنداً إلى أن هذا القرض يخالف الشريعة .. و جاءت نتيجة تقرير الطب الشرعي على أنها أصيبت فى عينيها اليسرى و ترتب على ذلك فقد الإبصار بها مما تعد عاهة مستديمة يستحيل برؤها.
الزوجة تمثل أمام منصة القضاء ثم تحلف اليمين القانونية بأن تقسم بالله أن تشهد بالحق، فشهدت.. وقالت : "اطلب العفو عن زوجى" .. بهذه الكلمات القليلة خرجت الزوجة على كل مقتضيات المنطق.. زوجها المتهم أفقدها البصر بإحدى عينيها بعدما أوسعها ضرباً.
إن المنطق يقول أن تأتى شهادتها على غير هذا النحو وإن العدل يقتضى بأن يلقى هذا المتهم الجزاء الذى يستحق لكن الزوجة قد أصرت على تصالحها معه مؤكدة فى إصرار غريب هذا الصلح بمحض ارادتها دون اكراه عليها ثم همست تفصح عن السبب الحقيقى وهى تقاوم الوهن الذى لا يزال يعتصرها. وقالت أنها تحمل جنيناً فى أحشائها وإنها لن تجد لها مسكناً هى وجنينها فيما لو أن زوجها سُجن.
وعندما أخذ الدفاع فى مرافعته دفع بانتفاء التهمة استنادا إلى أن الزوج كان يمارس حقه فى تأديب زوجته وهو ما أباحه له القانون والشرع.. وبعد أن أنهت المحكمة مداولتها أصدرت حكمها بمعاقبة المتهم بالحبس لمدة سنة واحدة وأمرت بإيقاف تنفيذ العقوبة لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخ جلسة النطق بالحكم.
وقد أوردت المحكمة من بين أسبابها هذه الفقرات: إن المحكمة وهى في سبيلها لهذا القضاء لا يمكن أن تصف ما اقترفه المتهم أنه من قبيل ممارسة حق التأديب.. وإن توثيق الزوجة المجنى عليها بحبل ثم الإنهال عليها بالضرب المبرح بعصا وحزام وبنسة كهرباء لمدة ثلاث ساعات وضربها بقبضة اليد في كلتا عينيها والذى نتج عنه فقد الإبصار تماماً بالعين اليسرى مما يعد عاهة مستديمة يستحيل برؤها.. إن ذلك لا يمكن أبدًا أن تعده المحكمة من قبيل استعمال الحق.. وإن الحق في التأديب إنما شُرع للإصلاح والتقويم والتهذيب بينما ما آتاه المتهم لا يمكن أن يجد له وصفاً غير الجرم ..والجرم المشين.
أوضح رئيس المحكمة قائلا ان هذا العنف الأسرى بغيض في جميع الأحوال لكنه يصير أكثر بغضًا عندما يستند إلى شريعة قيدت استعمال هذا الحق بقيودٍ كثيرة.. وإن الإرتكان إلى حق التأديب المستمد من الشريعة إنما هو ارتكانًا في غير موضعه ويأتى ربما على قمة المتناقضات التى تعترى سلوكنا والتى صنعت هوة واسعة بين ما نمارسه من عبادات وما يصدر عنَّا من سلوك.
إن هذه العنف الأسرى لا يجب أن يكون له موضعًا في أى مجتمع إنسانى وقد حرمته كل القوانين العقابية في الشرائع الداخلية وكذلك كل المواثيق والاتفاقات الدولية وأما عن الشريعة وطالما استند الدفاع إليها فقد جعلت من الزوجة سكناً ولم يترك الرسول الكريم خطبة الوداع من قبل أن يقول لنا "استوصوا بالنساء خيراً".. ولقد كانت خير وصية بالنساء بينما نحن نأتى بأبغص السلوك وأبعده عن الإنسان وقيمة الانسان.
وأما عن تصالح المجني عليها أمام المحكمة وإقرارها بالعفو عن زوجها المتهم على سند من أن لا مأوى لها غير منزل الزوجية وأنها تنتظر جنينًا لن تجد من ينفق عليه سواه فإن المحكمة وهى تستجيب لما قررته وتأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة أخذًا بتلك الاعتبارات التى تتجلى فوق نص القانون تقول بأنها وازنت بين أمرين.. العقاب وهو حق لهذا الجرم والصفح وهو فضل ربما ذهب بالضغينة وربما أعاد الضمير الضال إلى النفس"
اترك تعليق