متى ستدرك أن أحلك فترات صمتى هى قمة حديثى غير المنطوق؟ لكنى وصلت لقناعة أقرب لحد اليقين أن ليس كل منطوق مفهوم محسوس أو حتى مرئى ، وحين فطنت لهذة الحقيقة فقد لملمت عباءة أفكارى ، وتدثرت بها ، وأنا مُنكسة الرأس لست بمكسورة ، أو هزيلة ، أو مهزومة إنما كى أستريح قليلاً من معركة كلامية لن تسفر عن أى شيىء.
ومتى كانت الكلمات خير صديق أو أفضل وعاء للتعبير عما يختلج ف صدرى، بل كانت فى أغلب الوقت خائبة ضعيفة لا توقر ما أقصده من معانى، وأحياناً أخرى خائنة تنطق بما لم أبداً أعنيه .... والآن هل هناك أصدق من الصمت ؟
صمتى أنا كى يتحدث عن معاركى ، أفكارى ، ويزيح الستار عن أسرارى ، يحكى عنى ، يحتوينى ، يصيغنى ، يتلحفنى ، يستلهمنى ، ويراقصنى ، ويرقص معى ، يشعر بى كما لم يشعر بى من قبل بشر ، يحتضن مخاوفى ، يمد لى يد العون ، يستوعب هواجسى القائمة والقادمة ، يرسم طريقاً لأحلامى المستحيلة ، ويمد حلقة وصل لمشروعاتى المؤجلة ، ويبعث بطوق النجاة لأمنياتى الراحلة إلى مكان غير ذى مكان وبشر ليسوا ككل البشر .
ومتى تخلى عنى الصمت ، أو طعننى ف ظهرى ، أو أساء لى ، أو أساء الحكم علىّ ، أو رحل بعيداً ، أو تخاذل ، واستسلم ، وتخلى عنى ، أو تنحى عن قضيتى ؟!!
لم يكن يوماً لى سوى خير صديق .. إنه [ الصمت ] فلم يكن مرتعشاً .. مرتحلاً .. كاذباً كالكلمات التى لم تُعِيننى يوماً سوى على نفسى ، فلم تكن يوماُ نبراساً ينير طريقى ، أو جسراً أستطيع أن أقيمه بينى وبين الآخر فهى حائرة مهيضة هشة .. لم تكن يوماً بقوة وجسارة ونبوغ صمتى.
الصمت هو أفضل ما أجيده منذ زمن سحيق .. صمتى الحزين المقيم الشاهق الفائق الفريد العنيد المهيب المسيطر الرائع كثيراً .. الذى يتجلى ببلاغته عندما تعجز الكلمات عن الوصف ، أو تتعطل عن التبيان .
أحييك .. وأنحنى .. ثم أهم لأقبل جبهتك الشامخة .. أمد يدى لأصافحك ، وأعترف لك بجُل حبى ، ومدى تقديرى لك فقد أثبت قدرتك على تحمل ما يعتمل ف صدرى من أفكار نابضة بالحياة ، وما يدور بداخلى من معارك طاحنة ، وما يفور ف باطنى من براكين لمعانٍ حارقة لا تشفى ، وآثار لجروح لا تندمل ، ورؤى لا تهدأ ولا تغفو ، فكلماتى إما مؤرقة أو مترقرقة أو مرققة ، معبرة عن كل شييء ، لكن لاتملك أن تعبر ف حقيقة الأمر عن أى شيىء سوى نزهة من المشاعر التى تشتعل ولا تخبو ، تصرخ ولا تندمل ، والتى تأتى بلا أى نية صادقة للرحيل.
كم مرة انتحرت الكلمات ، وسحقت مهزومة بداخلى قبل أن تعرف لها طريقا على لسانى ؟! وكم مرة حاولت جاهدة أن تبحث عن منقذ أو منفذ آخر غير لسانى ... وكم حاولت أن تستغيث عبر بوابة عينىّ مشيرة صارخة ملوحة طالبة للنجدة بإستماتة ؟
لكن لم تصمد كثيراً فقد ذبلت ، واحترقت ، وانصهرت داخل دموعى ، وتساقطت منتحرة من علياء .. وف رحلة سقوطها الحر تلتقى بشقيقتها المقيمة ف بيت متواضع على جرف لسانى فتحاول هباءاً إنقاذها متمسكة بها وبأخر طرف لها من أمل فتحاول التشبث بها تشبثاً أخيراً وبداخلها معركة من معانٍ كثيرة مختلطة وكأنها تُرثيها حزناً ، لكنها أيضاً تُحييها على شجاعتها التى كلفتها حياتها ولسان حالها يقول:
"يكفيكى يا أختاه شرف المحاولة"، لكن ما فائدة المحاولة فأين أنت ِ الآن؟!!
أنتِ فقدتى المعنى كما فقدتى الحياة .. اذهبى حبيبتى إلى مرقدك الأخير.
وتظل الشقيقة الناجية تداعبها فكرة أخيرة.. ألم يكن أفضل لكى أن تحتمى بداخله.. أن تكتفى بأن يكتنفك بقوته ، ودفئه ، وعنايته ؟ أن يرعاكى ... وكفى؟ ألم يكن كافياً أن تبقى بداخله ، وتنعمى بجل ما قدمه لكى الصمت خيراً من الرحيل؟
فأى معركة كسبتى؟ وإلى أى مرحلة وصلتى ؟ وأى فكرة أنارتى ؟ وأى شخص خاطبتى؟
بل لقد دفعتى حياتك ثمناً غالياً لمعركة بائسة لم يعشها غيرك ، ولم يشعر بها سواكى ... فلترقدى ف سلام يا حبيبتى .. سأفتقدك لكننى أبداً لن أكون مثلك ، ولن أختبر هذا الموت الشجاع ، بل سأعود أدراجى داخل صمت لن يرحل أو يغادر أو يَمل ، ومن ذا غيره سيكون أكثر حنواُ، واحتواءً ، وحفاظاً عليّ منه..
إنه (الصمت المهيب).
اترك تعليق