ما كانت رحلتي إلى المغرب تنتهي إن لم نشدّ الرِّحالَ إلى صديقتنا مديرة البنك ابنة "طَنْجة" التي تشبه مدينتها بجمالها.
قَدِمَتِ الأُختان من الدّار البيضاء إلينا في الرّباط، وسافرنا نحن الخمسة بالقطار إلى طنجة تسبقُنا فرحتنا بلقاء المدينة وأهلها.
ستّ ستّات، كلُّ واحدة منا تقارب الخمسين، وكلّ واحدة تستلم منصبًا مهمًّا ومركزًا اجتماعيًّا... كان اللّقاء حيويًّا ولقصر المدّة التي سنمكثُها حاولنا استغلال كلِّ لحظة فلم نترك مكانًا في طنجة إلا وزرناه.
في اليوم الأخير قرَّرنا أن نتعشَّى في ذلك المطعم المطلّ على نقطة التقاء البحر الأبيض المتوسّط بالمحيط الأطلسي....
كنا نسرح بين فترة وأخرى في بدائع الخالق، وفجأة قلت لهن:
- آه لو كان يوجد أركيلة الآن وفنجان قهوة لاكتملت الجلسة...
وما كدتُ ألفظ كلماتي حتّى قالت مضيفتنا: أنا سمعت أن هناك مقهى على الكورنيش يقدّم الأراكيل.
وبما أن الأراكيل ممنوعة في كلّ الأماكن العامّة في المغرب استغربنا، وقلت لها ليس مهمًّا، وأصرَّت.
أنهينا العشاء وسألنا عن المكان فدلَّنا شابٌّ أنّه قريب ونستطيع الوصول إليه مَشْيًا على الأقدام...
وصلنا خلال بضع دقائق ووجدنا اسم المحل (كباريه...)، طبعًا تمنَّعت أنا وقلت إنّ الأركيلة ليست مهمّة ولكنّهم أصرّوا أن ينفّذوا رغبتي وأنا الضّيفة القادمة من لبنان...
كانت المرّة الأولى في حياتي الّتي أدخل فيها كباريه، ولم أره إلّا في الأفلام وكذلك كانت صديقاتي... أربعة شبّان من الأحجام الكبيرة يقفون عند المدخل، فتحوا لنا الباب، ونزلنا درجًا طويلًا نكاد لا نتلمَّس طريقَنا، والأضواء الحمراء الخافتة تُؤكّدُ أنّنا في كباريه حقيقي، كنّا نشجّع بعضنا على إكمال الطّريق وضحكاتنا تكاد تلفتُ الأنظار إلينا.
استقبلتنا شابّة في مقتبل العمر واختارت لنا زاوية بلونٍ أحمر فاقع وجلسنا ونحن نتهامس.
وطلبنا الأركيلة التي قادتنا إلى هذه المغامرة، وطلبنا المقبّلات والعصير ...
عصير في الكباريه!!!! ابتسمت الفتاة الَّتي تأخذ الطَّلبات ورحَّبت بنا ثانية.
بما أنَّنا أوّل مرّة ندخل كباريه فقد استغربنا النّظام الموجود، فهناك شابّ عريض المنكبين قويّ الجسد في كلِّ زاوية لضبط الأمن، وزوايا الجلوس بعيدة عن بعضها ولا يتدخّل أحد بك...
ودارت النّكات والتّعليقات بيننا، وكيف سنخبر فيما بعد عن ارتيادنا الكباريه وكلّ واحدة تضع أفكارًا منها المُريبة ومنها المُضحكة.
ودخل المُطرب الشابّ وهو يغنّي الأغاني الشّعبية وبعده بقليل دخلت الرّاقصة ببذلة حمراء كلون كلّ ما في المحلّ، وبدأ الجمهور يطلب الأغاني منه.
وفجأة تقدّم المطرب من زاويتنا فنادته مُضيفتنا ووشوشت في أُذنه بضعَ كلمات ووضعت في جيبه مبلغًا من المال إكراميّة...
لم أنتبه إلَّا والتَّرحيبات تنهالُ عليّ باسمي أنا الضّيفة الكاتبة القادمة من لبنان، والجمهور يردّد وينظر إلَيَّ مُحَيِّيًا، وبعدها بدأ يغنّي عن لبنان فغنّى لوديع الصافي وفيروز ونصري شمس الدّين وبين كلّ أغنية وأخرى كان يحيّيني بالاسم والصّفة...
وعند خروجنا من المحلّ بعد عدّة ساعات رافقنا المُطرب إلى باب الكباريه ودعا للبنان أن يعود كما كان...
وصلنا إلى الكورنيش وتنفَّسنا هواء طنجة العليل، وقلت لهن:
- أتعرفن، رغم أنَّها التَّجربة الأولى من نوعها بالنّسبة إلينا جميعًا، لكن استمتعنا وكان لبنان معنا...
قالت المضيفة: ولا تنسي الأركيلة!
قلت: وهل أنسى هذه التَّجربة المميّزة وسببها: ستّ ستّات في كباريه مِن أجل أركيلة!!!
بقلم - أغريد الشيخ:
اترك تعليق