يعتبر الطبيب الفرنسي "جانيه" هو أول من وصف حالة ازدواجية الشخصية عام 1889، وربطها ربطا متينا بالصدمة النفسية في مرحلة الطفولة، ولكن هل هي مرض؟ وهل تؤدي إلى مشاكل في العلاقات الاجتماعية عند المريض؟
نعم.. هي أحد الاضطرابات التي تصيب الإنسان، حيث تظهر عنده شخصيتان في جسد واحد، ويطلق عليها (اضطراب الهوية الانشقاقي أو الانشطاري)
ومن أهم أسباب هذا الاضطراب:
ــ عدم التكيف مع الواقع والهروب من تجربة مؤلمة، وعدم القدرة على حل مشكلات استعصت على المريض، لعدم تكيفه مع نفسه.
وهذا ما يهمنا في حديثنا عن رواية (أحلام السمرة) للأستاذ محمد عباس علي، فالرواية تدور حول هروب (السمرة) الفتاة الشابة الجميلة التي تقطن في منطقة (سوق باكوس) بالإسكندرية، بحثاً عن حياة تكون فيها مخيرة، لا مسيرة، وهربا من مصير رسمه لها أهل السوق دون إرادة منها أو من والدتها(عزيزة) وذلك بعد أن خذلها خالد ابن المهندس سالم الذي أستغل تعلقها به وانتزع منها لحظات سعادة بوعود زائفة ظهرت جلية يوم وفاة والدها الحمزاوي بائع الخضار بالسوق، وضبط سميرة والدة خالد لهما غارقان في لحظة سعادة مسروقة، ثم طردها من الشقة، وتعنيفها، وخاصة حينما أدار لها خالد ظهره.
وتتلخص حبكة الرواية في، مقتل (عزيزة) والدة السمرة بعد هروب ابتنها من المنزل وفقدها لبصرها من كثرة البكاء عليها، ومحاولة المهندس(سالم محمود) حل لغز مقتل(عزيزة) فهي عشيقته التي لا يشعر بوجوده إلا معها، والتي كان قتلها سبب في صراعات نفسية، وكوابيس كانت تنتابه باستمرار، وأهمها الكابوس الذي رأي فيه (الرجل ذو اللحية البيضاء والعيون المتسعة الكبيرتين، يشعان نوراً وسط العتمة) كما جاء في وصفه علي لسان الراوي المشارك، وقد حذر ذلك الشيخ المهندس سالم من ــ المرأة مبتورة الرأس ــ مما جعل التفكير في هذه المقولة هي الشغل الشاغل بالنسبة لسالم، للوصول إلي من تكون؟!
إن (السمرة) في هذه الرواية هي الشخصية الرئيسية (البطلة) والعنصر المهيمن في النص الروائي الذي ينظم العناصر الأخرى ويحددها، ويضمن تماسك البنية الفنية وتلاحمها، كما أنها شخصية ذات كثافة سيكولوجية، بما تنطوي عليه من صراع داخلي، يعكس أزمة نفسية تتمثل في علاقة(السمرة) بذاتها وبالآخر، وتوجد شخصيات أخرى رئيسية مثل: (سالم محمود) المهندس جار السمرة ــ (عزيزة) والدة السمرة.
أما بقية الشخصيات فهي شخصيات ثانوية أو هامشية مثل:
(سميرة) زوجة سالم ــ (خالد) بن سالم ــ (الحمزاوي) والد السمرة ــ (أبو رماح) كبير السوق ــ(حربي) بن أبو رماح والمحب للسمرة ــ (سعاد) صديقة السمرة ــ (أم سعيد) بياعة الخضار ــ (سامح الدمنهوري) مقدم الشرطة والمحقق في مقتل عزيزة ــ (باسل) الرجل السوري زوج السمرة الذي تزوجته بعد هروبها.. وغيرهم من الشخصيات.
ويقوم السرد في رواية (أحلام السمرة) على مناجاة نفسية طويلة تعيشها (السمرة) خلال حدث الهروب، لدرجة أنها تؤثر على الرؤية السردية، بجعلها رؤية داخلية، عبر مشاركة الذات الراوية وفعاليتها في سياق الأحداث، والمناجاة ذاتها هي التي تشكل طبيعة علاقة السمرة بذاتها وبالآخر، إذ تصبح مثار جدل حول مدى هذه العلاقة وإشكالية تعقدها ودرجة غموضها وغرابتها، هذا فضلاً عن أنها تبلور حالات التداعي السيكولوجي التي تعبر عن فقدان (السمرة) وتواصلها مع ذاتها أو مع الذوات الأخرى، فتجتر ما بداخلها من حالات شعورية ولا شعورية، وتبتعد عن عالمها، عالم السوق.
وحيث إن السمرة شخصية محورية ذات كثافة سيكولوجية، تستقطب جميع مظاهر الصراع حولها سواء أكان صراعاً داخلياً أم خارجياً، وبالتالي تعد مفتاحاً أساسياً في تحديد المضامين النفسية في الرواية وكشف أيديولوجية النص، بالوقوف على مقومات هذه الشخصية وسبر أغوارها، وصولاً إلى سماتها وأفكارها وانفعالاتها، فإن الكشف عن كل ما يمت بصلة للجانب الداخلي لهذه الشخصية هو الهدف الأساسي لهذه الدراسة.
من ثم فإن دراستنا للمضامين النفسية لرواية (أحلام السمرة) سوف تستند إلى المنهجين النفسي والتأويلي، نظراً لوجود علاقة متبادلة بين الأدب وعلم النفس،
فسيجموند فرويد Sigmund Freud يرى أن النص الأدبي يعد مصدراً للتحليل النفسي، والطريقة القويمة في فهم هذا التحليل، بما يزخر به النص من إبهام وتعقيد ومرجعية ذاتية غنية بالمعاني، كما يذهب إلى أن الذات (الأنا) تنقسم إلى: شعور ولا شعور، وأن العمليات النفسية فيها تحتوي النوعين.
الحالات الشعورية بالرواية:
1 – الإحساس بالقلق:
لما كانت الكلمات في السرد الروائي، علامات حية، تعبر عن أكثر من معنى، وتمس أكثر من دلالة، الأمر الذي يلزمنا الوقوف على لحظة سردية مهمة في رواية (أحلام السمرة)، وهي لحظة "هروب السمرة" بملابساتها النفسية والجسدية، وبما تنطوي عليه هذه اللحظة من دلالة أساسية تتلخص في كلمة القلق، ذلك القلق الذي لا ينتاب الإنسان إلا حينما يعي وجوده وإمكانية تحطيم هذا الوجود، وبالتالي احتمالية فقدان الإنسان لنفسه.
2 – الإحساس بالكبت والقهر:
إن حاضر(السمرة) الزاخر بأحاسيس الكبت، القهر، والشعور بالقلق على وجودها، إنما هو امتداد لماضٍ مأساوي، والماضي هو الشيء الوحيد القابل للتذكر، وهو ينقسم هنا إلى نوعين من الألم:
ــ ألم من وعيها بعلاقة والدتها بالمهندس سالم محمود، وصعودها إليه باستمرار بحجة أنها تساعد زوجته في أعمال المنزل.
ــ ألم حبها لخالد الذي أستغل براءتها، وتعلقها به، ثم رفضه الارتباط بها، ومحاولة كبير السوق تزويجها من ابنه درءا للفضيحة.
فضلاً عن أن هذه المرحلة تمثل بداية ارتباط (السمرة) بمجموعة من التابوات، "Taboos ويقصد بها المحظورات "بحكم العادات والتقاليد من خلال السلطة العائلية والاجتماعية وتمثل بداية معاناتها من صنوف القمع والقهر والكبت.
إن حالات القمع والكبت التي تزخر بها طفولة السمرة ومراهقتها، دليل على الظلم الاجتماعي وغياب العدل وموت الحرية وقيم العدالة بين أهل السوق، كما تكشف تلك الحالات من خلال ما توحى به من دلالات معينة أبرزها: (الخطيئة – العار – العيب) عن أيديولوجية خاصة بمجتمع معين تجاه المرأة ووضعها، وهو ما تؤكده لنا المقارنات التي كانت تعقدها السمرة بينها وبين الآخر والتي تفصح عن إحساسها بالدونية.
وتتواصل المقارنات بين (الأنا) أي السمرة، والآخر، لتشعر بالقزمية والدونية، حين ترى السمرة نفسها مخلوقاً ناقصاً، فتاة حمقاء، بلهاء، فارغة، جارية مهضومة الحق، جمالها لا يسبب لها إلا الألم.
ومن سياق ما سبق يتضح لنا أن السمرة ترسم إطاراً عاماً لصورة الرجل بخصائص معينة، يندرج تحته نماذج لرجال لا يشذ أغلبهم عن هذه الصورة، فالرجال في مجتمع أهل السوق، يتطابقون في أوصافهم مع الإطار العام لصورة الرجل، كمـا نجد تطابق هذا الإطار مع شخصيات بعينها في هذا المجتمع، والتي تتمثل في (والد السمرة ــ سالم ــ حبيبها خالد ــ حربي ــ أبو رماح)
وفى الوقت ذاته يتبدى لنا أن علاقة التباين بين صورة الآخر (شخصيات الرجال) بما تتمتع به من قوة وسلطة، وبين السمرة (المعادل الموضوعي للشخصيات النسائية) بما تعانيه من ضعف وقهر، ما هي إلا تأكيد لصورة السمرة واستمراريتها، من منطلق أن الضعف والقهر من معطيات القوة والسلطة، وذلك على اعتبار أنهما نقيضان أو وجهان لعملة واحدة هي النفس البشرية.
ثانياً: اللاشعور وشخصية سالم محمود:
تعد الأحلام لدى "كارل يونج" المادة الأساسية التي تتجسد فيها الأنماط الأولية أو النماذج الأصلية لمكونات اللاشعور الجمعي، وتتمثل في الأفكار والصور اللاشعورية الموروثة عبر الأجيال مثل الأفكار والصور المتعلقة بالله والشيطان والخير والشر والأب والإنسان والحيوان والحياة والموت والحب والكراهية، وغيرها.
وحيث إن صور الأحلام هي صور رمزية لا تصرح بالواقع بطريقة مباشرة، بل تعبر عن القصد منه بشكل غير مباشر بواسطة المجاز فلا غرابة في أن الماضي الذي يتربص بالشخصية الرئيسية الثانية (سالم محمود) ويخيفه بأشكال شتى (شبح مخيف ــ في حالات اليقظة، هو ذاته الذي يظهر له في حالة " التهويم" التي تشتمل على: الأحلام ــ وأحلام اليقظة ــ والأخيلة ــ والرؤى ــ والكوابيس ــ وصور خيال ما قبل النوم ــ وصور خيال ما بعد الاستيقاظ.
وحيث إن حالة التهويم تحوي – فيما تحوي – أحلام اليقظة والأخيلة، فقد تمثل هنا في مشهد المرأة مبتورة الرأس الذي كان يطارد سالم ليل نهار.
إن الازدواجية العاطفية لدى السمرة تحول دون كراهيتها لعنصر الرجال، رغم ما تراه فيهـم من غطرسـة وأنانية وكبرياء وتناقض فكرى وسلوكي ومراوغة وتقلب، ورغم ما تعانيه بسببهم، فقد أحبت السمرة باسل وتزوجته!
كذلك تتجسد الازدواجية بوضوح عند شخصية سالم محمود، فهو (يعشق الهدوء، ويعيش في ضجيج السوق ــ متصوف، ويرتكب الفحشاء ــ جاد، وحالم لحدود السماء ــ متعلم، ويتصرف كالجهلاء ــ يحب زوجته، ويخونها كل مساء)
وأخيراً: يؤكد السرد الروائي أن السمرة بعد مغامرة هروبها من السوق إلى محطة الرمل، وبلوغها المال والحب والجاه، بزواجها من باسل السوري، تعجز عن اكتشاف ذاتها وتحقيقها، ومن ثم لا تجد معنى لحياتها خارج السوق، فتعود لتري أمها وتتوسل إليها كي تسامحها، وبذلك نري أن تخلصها من القيود لا يحقق لها الحرية المرجوة فتظل حريتها معلقة بداخلها حتى تعود لتنتقم من قتلة والدتها، فتُقتل وتُقطع رقبتها علي يد حربي، وتتحقق بذلك نبوءة الشيخ ذو اللحية البيضاء، لتكون السمرة هي: المرأة مبتورة الرأس.
اترك تعليق