بمجرد أن أكد له الطبيب أن حالته إيجابية، وأن الفيروس أصبح ضيفاً على جسده، تحرك بسيارته قاصداً بيته، الذي سيصله بعد ساعتين، تكلم معها تليفونياً وأخبرها بما حدث، وطلب منها أن تأخذ ما تحتاجه من غرفة نومهما ( غرفة العزل المقترحة ) ... لأن القادم لا يعلمه إلا الله، تلقى منها كما تعود دائما كل عبارات الدعم ، وهي برقتها المعتادة تحاول أن تخفف من تهويلاته، لكن الأمر الآن مختلف، لا يوجد تهويل، نحن أمام ضيف لعين و غامض، لا يستنكر أن يصطحب جسد وروح مضيفه في نهاية العلاقة، العلاقة التي تدوم لأيام ... أو على أقصى تقدير لأسابيع قليلة، هو ليس بالمرض الذي يصاحبك سنوات طويلة ... حتى نهاية حياتك ... لا ... الرحلة معه قصيرة جداً ... إما أن تتعافى وإما أن تموت، هكذا هو الأمر، وتلك هي زاوية الرؤية ( حتى لو كانت احتمالات التعافي أكبر )، إنها تجربة الإشراف وجدانياً على الموت، تَذكّر في أثناء رحلته حياته كلها، بأفراحها وأحزانها، تذكر طفولته، تذكر أباه، تذكر كل شىء، وكأن تسعة وأربعين عاما من السعي في هذه الأرض قد لُخّصت في ساعتين، مر الشريط أمامه بدون أي مشاعر ، لم يكن مهتماً بما كان ولكن اهتمامه كان منصباً على تفاصيل النهاية التي ممكن أن تكون، شكل الموت الذي نعرفه، من تجارب شخصية، ومن التراث الذي تحدث به الشعراء،
خُيّل إليه أن أمل دنقل كان يركب سيارة على الجهة المقابلة للطريق، لم تسمح اللحظة القصيرة أن يتحقق من ذلك، لو اختلفت الظروف لإستدار لاحقاً به ... أخذ يسترجع قصائد أمل ...
(ها هو الرّخ ذو المخلبين يحوم ..
ليحمل جثة ديسمبر الساخنة
ها هو الرّخ يهبط
والسحب تلقي على الشمس طرحتها الداكنة )
تذكر أوراق الغرفة ٨ كاملة، متسائلاً .. هل تكون غرفة العزل كالغرفة رقم ٨ التي قضى فيها أمل أيامه الأخيرة ؟!
هل تأتيه الكتابة بنفس ذلك التدفق الرقراق الذي أتى لأمل وهو على حافة الموت ؟!، تُرى هل تنتظر لتتأكد أن الموت أصبح يجلس في نفس الغرفة ! .. حتى تجود بنفسها .. وتعطي سرها، هي إذاً فرضية التأكد والإحتمال بين الموت و أُوار الكتابة، و هي احتدام الصراع الأخير .. بين الأحرف الأخيرة .. والأنفاس الأخيرة !
***
وصل إلى البيت فوجدها كما هي دائما، مبتسمة .. تلك الإبتسامة الرؤوم .. أحس بروحها، عن بعد ... فلا تقارب ... ولا اختلاط ... هكذا قال الطبيب، دخل إلى غرفته وكأنها ليست هي، أخذ يتطلع إليها وكأنه يراها لأول مرة، سيكون هناك ما يكفي من الوقت ليتفحصها ....!
غرفة مغلقة لا تُفتح إلا وقت الطعام والشراب،
تدق عليه الباب فيخرج بعد دقيقتين بكمامته، فيراها على بعد أمتار بعيدة تشير إليه ...
المشهد سينمائي رغم قتامته ... لا يوجد حديث إلا عبر التليفون، كل الأحبة ( الذين على علم بما يحدث ) يتصلون ويتواصلون، وهو يحاول أن يوزع وقته فيما بين القراءة والتليفزيون، متابعاً سلوك ضيفه الملعون، يصلي ويدعو الله أن ينجيه من أجل كل الأحبة الذين ينتظرون تعافيه،
حاول أن يخفي الأمر عن والدته، ولكنها أحسّت، قال لنفسه، نعم .. الأفضل أن تعرف، فلربما يستجيب لها الرب، قال ذلك مفضلاً ترجيح كفة الشفاء، عن معاناة أم مريضة في أواخر عقدها الثامن، حين تعرف أن وحيدها في خطر!
هل كان ذلك كذلك؟! أم هو الإيمان أن دعوة الأم مستجابة .. بدون أي تنظير،
الأيام تمر، كما العمر الذي يمر، يفقد الرغبة في القراءة ويمل من التليفزيون، الأطباء يتابعون، والأخبار أحياناً سعيدة .. بنتيجة تحاليل طبية جيدة, وأحياناً أخرى غير ذلك .. حين يكتشف الضيف أنه سيُطرد .. فيغير من سلوكه ليبقى !
هي حرب بين متناقضين، الحياة والموت، تكسب فيها الحياة هذه الجولة، وربما تكسب جولات أخرى، حتى يأتي الذي لا فرار منه، ساعتها لا حرب تدار ولا دعاء يشفع، حتى لصاحب القلب السليم.
اترك تعليق