هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

الطاحونة
سمية عبدالمنعم
سمية عبدالمنعم

بقلم: سمية عبدالمنعم


أكوام الأجولة البيضاء، تتناثر من بين ثقوبها الخفية زخات الدقيق، طابور غير منتظم من جلاليب رمادية قد لا تصدق أنها في حقيقتها سوداء.

مشهد يتكرر أمام عيني مرة كل شهر.

قبيل الفجر بلحظات، توقظني أمي هامسة" هيا لنذهب للطاحونة"، فأنهض متلهفة وقد غلفني نشاط مبهم.

تسحب قدماي حذاءً باليا، وفي ذيل جلباب أمي أتشبث، بينما تحمل هي جوالا ضخما من القمح ، فوق رأسها، وبين الاثنين خرقة من قماش بالٍ قد صنعت منها دائرة أطلقت عليها "حواية" وثبتتها في مهارة فوق رأسها لتقيها ثقل الجوال.

لم أسأل أمي يوما عن سبب اصطحابها لي ، وأنا الطفلة ، فربما كانت تستمد من كفي الصغير قوة وأمنا لا يحسهما سواها، وربما كنت لها صدّا لحكايات أهل القرية وغمزات نسائها عن تلك الأرملة التي تغادر في الفجر بحجة الطحين ، وترى أين تذهب.

بين بيتنا والطاحونة مسافة طويلة، لا أذكر أني يوما تأففت من طولها، بل كانت بالنسبة إليّ وانا ابنة الخامسة لحظات مرح واستمتاع أنتظرها بولهٍ لا يقاوم.

نسمات الفجر وهي تتسلل إلى رئتيّ، شعاع الشمس الكسول يتمدد في وجل، ليغمر وجهي بدفئه فأبتسم إليه في فرح، قبضة كف أمي وهي تحتضن كفي في حرص وقوة وامتنان، دفقة خطواتي على حقول البرسيم وأمي ترشدني إلى موضع آمن لخطوي.

كلها لحظات سكْر أنستني معنى المسافات وشقائها.

محاولةً أن تحافظ على دورها دون أن يسطو عليه أحد، ترفع أمي صوتها بالتنبيه تارة وبعبارات المزاح أخرى، فيما انسل الجوال عن رأسها وأسكنته يداها جانبا، ثم أسرعت لتعيد احتضان يدي وهي تبسم وتغمز لي بجانب عينيها مشجعة.

يتسارع الآخرون إلى حجز أماكنهم، وتهدر الطاحونة لتبدأ بهرس جوالات القمح واحدا واحدا،  فإذا بجسد أمي ينتفض على إثر هديرها وكأن مسّا أصابها، فيزداد قبضها لكفي وتعتصره عصرا، أنظر إليها في استنكار فأراها مغمضة العينين وقد فاضت عضلات وجهها وانبسطت كأن حلما يدور بخلدها، لكنها تعود لتنتفص فجأة بعد سماعها تأوهي، وتفتح عينيها وتجيل النظر حولها في ذهول، ثم تنكس رأسها في خجل.

تستدير عيناي عنها لأرقب الطاحونة في حذر وخوف وأتساءل ماذا لو كانت تلك الأجولة تحمل الأشرار لتعتصرهم الطاحونة وتصنع من عظامهم القذرة دقيقا تقتاته الشياطين.

يخترق هدر الطاحونة صوت ربما فاقها قوة وصلابة، ذاك هو عم إسماعيل، وعم إسماعيل هو قائد تلك الطاحونة، إن رأيته بعيدا عنها ظننته كهلا واهنا، وإن حاصرته أجولة القمح تحول إلى أسد ضارٍ، يصرخ في الزبائن وينهر من يتجاوز دوره، فتكفي نظرة ساهمة منه لتدب الرعب في أوصالي الدقيقة ، حتى وهو ينظرها لغيري، يقف معتليا مقدمة الطاحونة، يتلقف الأجولة في خفة شاب عشريني ويقذف بها إلى الفوهة ، فتمتليء أنفاسنا برائحة الدقيق، وتتطاير ذراته لتغمر وجوهنا وملابسنا، فلا يحرك أحدنا طرفا لنفضها، وكأن وجودها دليل خير تحمده النفوس.

وحين يحين دور جوالنا تتنفس أمي الصعداء وترقب حركة الطحن في حذر وهي تؤكد على عم إسماعيل أن يسكب الدقيق كله ولا يبقى شيئا في الحلة، فإنه طعام أيتام.

يختلف وقع رحلة العودة في نفسي، فأعود منكسة مهمومة وكأنني سكبت الفرح على جسد الطاحونة وهجرتهما معا.

وبينما تزيح أشعة الشمس أسبلة الظلام، تتعلق عيناي بباب الطاحونة وأنا أمني النفس بأن يمر الشهر سريعا حتى تحين الزيارة المقبلة، فيما ألحظ شرودا قد حلّ بأمي ولم يغادر عينيها حتى وصولنا للبيت.

وعند القيلولة أصرت أمي على ألا أنام بين أحضانها كعادتي، ولأول مرة أبيت في الحجرة الأخرى، إلا أن أرقا قض نومتي، فتسللت إلى حجرتها علّها تعيدني إلى يديها، فتحت الباب بحذر متردد، ومررت رأسي من فتحة صغيرة أنظر إليها، فطالعني الشرود نفسه طالا من وجهها، وقد اتسعت عيناها عن آخرهما تنظران إلى اللاشيء.

عدت أدراجي بالحذر ذاته وقد أيقنت أن أمرا جللا ذلك الذي حال بيني وبين أحضان أمي، وليتني أفهمه، ولست أدري لم في تلك اللحظة تذكرت الطاحونة ولحظة انتفاضة جسد أمي على وقع هديرها.





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق