مضي الليل إلا قليلاً والظلام مخيم علي الكون بأجمعه ،والكواكب ملتفه برداء السحب ،والفضاء بحر مترامي الأرجاء إلا أنه ساكن وهادئ، والغيوث منهله متواصلة بقوة واحده لاتضطرب خيوطها ،ولا تختلف نغمتها كأنها شباك متشابكة بين السماء والأرض ،ومنزل السماك منير في مكانه بين المنازل المحيطة به ،منزل متواضع من الطين اللبن لا يري فيه الداخل إلا مصباحاً ضئيلاً يجاهد فتيله جهاداً شديداً في تمزيق خيوط الظلام الدامس .
وقد يري الناظر في ضوء المصباح الضئيل بضع شبكات معلقة بالجدران كأنها أشباح متماثلة ، ومنضده عاريه قد نشرت فوقها بضعة أنية نحاسيه تلمع لمعاناً ضعيفاً فإذا دار الواقف بنظره رأي حوله بساطاً علي الأرض قد اضطجع فوقها ثلاثة اطفال متلاصقين أخذ بعضهم بأعناق بعض كلأفراخ في أعشاشها ،وعلي مقربة من هذا البساط امرأه صفراء شاحبة الوجه متكئه علي ركبتيها تصلي وتبتهل إلي الله أن يرد لها زوجها سالماً وكان قد خرج كعادته للصي.
وإنها لكذلك هبت زوبعه هبوباً عظيماً كادت أن تعصف بالأخضر واليابس بالبيت فطار قلبها فزعاً ورعباً ،فظلت تردد رب إني مسكينه ضعيفه لا سند لي وهولاء أطفالي صغار لا يستطيعون أن يقوتوا أنفسهم فاحفظ لي ولهم حياة الرجل المسكين ،ألذي سلم أمره إليك وخرج في طلب الرزق ولم يعد حتي الساع.
وهنا هدأت الزوبعة قليلاً ، وخفت أصوات الريح فسكن ما بها ونهضت من مكانها فتناولت المصباح وفتحت باب البيت وقلبت وجهها في السماء لتري كم بقي بينها وبين الصباح،فمدت يدها بالمصباح أمامها لتري هل من قادم،فلم يقع بصرها إلا علي بيت جارتها ألتي رحل زوجها عنها منذ سنوات تاركاً لها أطفالاً صغاراً تقاسي معهم الالام الشدائد،فمر بخاطرها أن تطمئمن علي أحوالها فأخذت طريقها إلي الباب وقرعته فلم يرد عليها أحد فدفعته فرأت ما ارعد قلبها وامسك الدم في عروقه.
رأت البيت يتمايل يميناً ويساراً في أيدي الرياح ورأت الأمطار تسيل من سقفه الضعيف ورأت جارتها رقده ساكنه لا حس فيها ولا حركه فدنت منها فإذا هي ميته، فوقفت أمام هذا المنظر المخيف وصاحت(هذه نهاية الفقراء) يخرجون متسللين لا يشعر بهم أحد.
ثم خلعت رداءها ووضعته علي جثة الميته،ودارت بمصباحها في أنحاء الغرفه فرأت طفليها الصغيرين نائمين ورأت رداء أمهما مسبلاً عليهما قررت أن تأخذ الطفلين الي بيتها فحملتها برفق ومشت بهما الي بيتها واضجعتهما بجانب طفليها٠
ثم جلست تردد إن زوجي رجل فقير ماذا اقول له عندما يعود ،ثم وقفت عن الكلام لانها سمعت خطوات زوجها فتهلل وجها فرحاً وسألته كيف كان حظه الليله فقال لها ما أقساها كنت علي وشك الهلاك،ثم نظرت اليه وقالت له وهي مرتعده حبيبي اريد ان اقول لك شيئاً وروت له ما حدث فنهض من مكانه وسكت لبرهة وقال لها يخيل الي ان روح تللك المراه المسكينه واقفه الان أمام هذا الباب تقرعه وتضرع إلينا ان ناخذ اولادها ونكفلهااذهب وأحضريهم فتهلل وجها ونهضت من مكانها ومشت الي مضجع الاطفال فرفعت الغطاء ونظرت الي زوجها فلما وقع نظره علي هذا المنظر طار فرحاً وقال ما اعظمك يا مريم وهرع الي زوجته واحتضنها الي صدره وقال
يا سكان القصور ليتكم فقراء كي تكونوا راحمين ومحسنين
اترك تعليق