في ذاكرة كل قاض ..قضية محفورة في وجدانه..تفاصيلها ..أحداثها..لم يمحها الزمان..نسترجع مع قضاتنا الأجلاء بعضا من تلك القضايا..تفاصيل تلك الجريمة دارت أحداثها في مدينة أرض الذهب التي تقع على الضفة الشرقية من نهر النيل في بلاد الصعيد في شهور الصيف عام 1997 .
البداية..عندما توقفت تحقيقات النيابة العامة في جريمة القتل بعد مناظرة المجني عليه وطلب تحريات المباحث حول الواقعة وكذا تشريح الجثة للوقوف على أسباب الوفاة..فلا شاهد رؤية على وقوع الحادث في سواد الليل , ولا شيء يوجد غير تحريات الشرطة حول دوافع الجريمة التي لا تخرج عن كونها "جريمة ثأر" , بينما كان معاينة مسرح الحادث والعثور على "شبشب" يشتبه أن يكون خاصا بمرتكب الجريمة , هو الذي يقودهم لتحديد شخصية الجاني ..ولكن كيف يتم تحديده من بين العشرات الذين تم الاشتباه في ارتكابهم الواقعة ؟!..هكذا يتذكر المستشار محمد الدرديري رئيس محكمة الجنايات تلك القضية التي هزت إحدى قرى مركز أبنوب بمحافظة أسيوط ويعد وأحدا من أكبر مراكز المحافظة الإحدى عشر , ورغم مرور أكثر من 20 عاما على ارتكابها إلا أنها لا تزال محفورة في ذاكرته .
يسترجع المستشار الدرديري تفاصيل الجريمة , فيقول أنه بعد إخطار النيابة العامة بالعثور على جثة فلاح مقتولا في إحدى الزراعات ليلا أثناء استقلاله "الحمار" عائدا من أرضه بعد أن قام برويها , فانتقل على الفور لمناظرة الجثمان والذي لم يجد فيه طعنات ظاهرة , أو ثقوب ناتجة عن طلقات نارية , بينما كانت هناك دلائل حول قتله لارتطام رأسه بجسم صلب ! , ولذلك فجاء قرار النيابة بنقل الجثمان إلى المشرحة وانتداب الطب الشرعي للتشريح والوقوف على أسباب الوفاة , بجانب سؤال المقيمين والمترددين على موقع الحادث بهدف الوصول إلى شاهد رؤية أو دليل , في الوقت الذي توصل فيه رجال المباحث لتحديد هوية المجني عليه , ولكن يبقى السؤال الأهم من وراء ارتكاب الجريمة وكيف يتم حل اللغز .
اشتبه رجال المباحث وقتها في عدد كبير من أهل أسرة المتهم في القضية , ولكن الجميع ينكر صلته بالواقعة , فلا أحد يعترف بارتكابه جريمة الثأر – تلك الجريمة التي عانت منها المجتمعات نظرا لتوارثها عبر الأجيال..بجانب أن تلك الجرائم تعد من أخطر وأعقد وأصعب الظواهر التي تؤثر في حياة المجتمعات, لسقوط أبرياء كثر خلالها , لأن أقارب القتيل إما أن يأخذوا بالثأر من القاتل نفسه أو أحد أقاربه الذي ليس له ذنب , دون أن يتركوا للدولة الحق في القصاص من القاتل نفسه – ولذا فكانت تلك القضية لها طبيعتها الخاصة , وخاصة في صعيد مصر .
الدلائل والتحريات تشير إلى أن أحد المشتبه فيهم هو مرتكب الواقعة , ولكن كيف يتم تحديده بدقة..خاصة أن هناك "شبشب" لأحدهم , لذلك لجأت النيابة العامة إلى طلب كلب بوليسي تم الإتيان به من القاهرة , ففي هذا الوقت لم تكن الكلاب البوليسية منتشرة في كل المحافظات , فانتظرنا قدومه حيث فوجئنا بعد يوم أن الكلب قد تم إحضاره من أكاديمية الشرطة في قطار مكيف إلى الصعيد , وأنه نظرا لقدومه من سفر فإنه لا يمكنه العمل ! ..وفي اليوم التالي قال لنا مدرب الكلب أنه لا يستطيع العمل في اليوم التالي نظرا لأن حرارة الجو كانت مرتفعة مقارنة بحرارة الجو في القاهرة ولذا فإن الكلب سيستريح يوما آخر ! .
وفي اليوم الثالث , تم عمل عرض قانوني حيث قمنا باستدعاء جميع المشتبه فيهم , وإحضار الكلب الذي اشتم الحذاء- الشبشب- ثم انطلق يدور ويبحث عن الجاني من بين المشتبه بهم , تجول الكلب مرتين حولهم وفجأة انقض على المتهم وأمسك به , شعر القاتل بأنه سقط بسبب الكلب , وأخذ يقول " أنتم جايبين كلب هو اللى هيتهمني" دون أن يدري أن الكلب أحد القرائن الهامة في ثبوت الجرائم المختلفة , وأن للكلاب دور هام ليس بضربها أروع الأمثلة في الوفاء والإخلاص لمربيها ومعلميها ولكن للنفع والفائدة التي عادت على المجتمع منذ أن تم الاستعانة بالكلاب في وزارة الداخلية عام 1931 .
يعود المستشار الدرديري إلى القضية فيقول أن تحريات المباحث توصلت إلى أنه أثناء سير المجني عليه مستقلا "حمار" فوجئ المتهم مصادفة بمروره بالقرب منه ولم يكن متواجدا غيرهما على مسرح الأحداث , فقام بالإمساك بخشبة "شومة" وانقض بها على رأس الضحية حتى لفظ أنفاسه وفاضت روحه , وبعد أن أتم جريمته حاول الهرب مسرعا , فترك الحذاء الخاص به "الشبشب" الذي كان دليلا عليه في الوصول إلى ارتكابه الواقعة , واجهت النيابة المتهم بما توصلت إليه التحريات وأمرت بحبسه على ذمة القضية وأحالته النيابة العامة إلى محكمة الجنايات التي أخذت بما تم من إجراءات ومعاقبة المتهم.
اترك تعليق