محمد أونى
ذهبتُ في أولى سفرياتي إلى "المملكة العربية السعودية"، واتجهنا إلى أجمل بقاع الأرض "مكة المكرمة". انتهيتُ من مناسك العمرة في "الحرم المكي" مع أحد الأصدقاء، في شهر رمضان المعظم، حيث الروحانيات في أوجها.
أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. بعد ذلك توجهنا للسفر للمدينة المنورة، إلى رحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فدائماً أسمع عن المدينة، وأجواءها، وناسها، ويوجد شغف بداخلي لرؤيتها، وتحديداً الحرم النبوي الشريف، فزيارته من الأمور المشروعة والمستحبة، فهو ثاني المساجد الثلاثة التي تُشد الرحال إليها للصلاة فيها، والعبادة. وفي أولى أيامي في المسجد النبوي، وضعتُ أولى قدم لي فيه، وأنا داخل إلى المسجد، وأردد دعاء "اللَّهُمّ اغفر لي ذنُوبي، وافتح لي أبواب رحمتِك".
ثم قمت بصلاة الظهر، وبعد ذلك ذهبتُ للسلام على النبي (صلى الله عليه وسلّم)، وصاحبيه أبي بكر، وعُمر (رضي الله عنهما). وبعد أن انتهيتُ، جلستُ بالداخل في نظرة تأمل لتفاصيل المسجد، واستشعار لقدسية المكان، وجماله الروحاني. فأعجبتُ بأقل وأكبر التفاصيل، بسقفٍ المسجد النبوي الذي يُفتح أوتوماتيكياً، ليدخل ضوء الشمس، وتبدو اٍنعكاساته بالغة الجمال، تضيء أرجاء المكان، وتضفي جمالاً أكثر على ألوانه وزخارفه، التي يتجلى فيها روعة الفن المعماري الإسلامي،
ويدل على جهدٍ، وإحسان، واِبتكار، وإمكانيات، وعمل شاق يرفع له القبعة. وكان معي الشيخ "عمر"، وقد تعرفتُ عليه في رحلة العمرة، وهو أستاذ في الشؤون الإسلامية، وخاتم للقرآن الكريم. وبعد صلاة الظهر سمعت أشخاص بجواري يتحدثون، فعرفت من خلال لكنة حديثهم، أنهم مصريون، فألقيت عليهم السلام، وتعرفت إليهم، وطلبتُ منهم الاِنضمام إلينا في صحبة فائقة الروعة، فمنهم من كان من صعيد مصر، ومنهم من كانوا من رجال الدين،
فأثروا الحديث بعلمهم، وأدبهم. ربما لا تكفي الكلمات، للتعبير عن مدى جمال هذه الصحبة، ومدى علمهم الذي ينتفع به، وحديثهم الذي جاء بأسلوبٍ شيق ومبسط، ولا أذكر يوماً بأنني جلست مع صحبة ذو علم مثلهم من قبل. وفجأة دخل علينا رجل تجاوز الستين من العمر، كان حازماً، وصارماً، وغاضباً، وبتعبيرات وجهه التي بها كثير من القسوة، وبلهجة بها الكثير من التشنج، والعصبية البالغة، قال: يا أخى اتقى الله، أنتَ تُضيع وقتكَ في الكلام، ولا تحترم المكان.
فتساءلتُ باِستغراب، ماذا حدث؟! قال: أين تعظيم شعائر الله؟. هذا المكان للعبادة، وليس مكاناً للحديث. قلت له: أولاً، أنت تتعدى على حريتنا بدون وجه حق. ثم كل عمل بالنية يتحول إلى عبادة، وأنتَ لا تدري عن ماذا نتحدث، فالمسجد ليس مجرد مكان للصلاة فقط، وللعبادة والتقرب إلى الله طرق كثيرة. ونحن طلاب علم، نستفاد ونتبادل الذكر والعلم مع بعضنا البعض. ومن هنا بدأت أبحث عن دور المسجد في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد ورد عن الصحابة أنهم كانوا يجلسون في المسجد بعد الفجر فيتحدثون في أمور الجاهلية ويضحكون، ويبتسم النبي (صلى الله عليه وسلم). هذا فيما رواه مسلم عن جابر بن سمرة (رضي الله عنه).
ولكن حديثهم كان في ذكر الله، وما أنعم به عليهم من الإسلام، وما نجاهم به من الجاهلية، ولم يكن حديثهم في الدنيا واللهو واللغو، وقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن البيع والشراء، وإنشاد الضالة في المسجد، لأنها من أمور الدنيا التي لا تليق بالمساجد. والله أعلم. ولقد كان للمسجد في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، عدة وظائف، هي: • إقامة الصلاة، وذكر الله، وهذه هي أم الوظائف، قال تعالى، في قرآنه الكريم: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). • وظيفة التربية والتعليم، فالمسجد مدرسة عملية يومية، متكررة، ومتجددة، يتعلم فيها المسلم النظافة والطهارة، والفرائضَ والسننَ، من خلال الذكر والعلم. فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم)، يقرأ القرآن، ويعلمه أصحابه، ويفسر لهم أحكامه، وتقال فيه خطب الجمع، والأعياد، والمواعظ، والدروس الحياتية والدينية الأخرى بعد الصلوات، والإجابة على أسئلة الصحابة. • وظيفة الترابط الاِجتماعي، فالمسجد ملتقى جميع المسلمين، ومن غاب سألوا عنه، فإن علموه مريضاً عادوه، وإن كان له ميت عزوه وواسوه، والجائع والمحتاج يُعرف من خلاله، فيحمل إليه الطعام. • الوظيفة القضائية للمسجد، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم)، يفصل بين الخصومات، ويقضي بين المتخاصمين في مسجده الشريف. • وظيفة الإعداد للجهاد، فقد كانت الخطط الحربية توضع، ويتفق عليها فيه. مضمون رسالتي: لم أعجب بالتعصب، والجهل بالدين، وفصل الدين عن الحياة، والمعاملات بين البشر. ومن اِعتقد أن الدين هو الصلاة، وقراءة القرآن فقط، ففي اِعتقادي أن لديه قصور في رؤيته لمفهوم الدين، فالدين بجانب كونه عبادات، فإن جوهره هي المعاملات، والأخلاق الحسنة في التعامل. والتعصب، وتحريم ما أحل الله، من أكبر الكوارث. .
اترك تعليق