بقلم: علي عمر
"سعيد" و الأستاذ "عادل" ثم "الدار " ، لابد من شراء مناشف جديده وراح يتمتم بصوت متقطع
"أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا"
..................................................................
ثلاثه عشرة سنه مضت لم يتحدث فيها لأحد سوي لتلك الأسماء التي يذكرها كل يوم و أسماء قليله أخري أذا ما أضطرت حاجته لذلك!
الأسماء في الأغلب تتبدل مع الأيام ، يختفي بعضها أو تختفي كلها وتتبدل
وتبقي كلمتان فقط يذكرهما كل صباح "الدار" و "المراحيض"
ليله البارحه أحس بوهن وكأن جسده قد شارف علي الموت، الوسادة مبلله من دموع سالت طوال الليل، الصور هي نفسها تطارده كل ليله فيري في سقف غرفته "مضخه" الهواء ، يري لون الدم الأحمر يندفع اندفاعه الأخير تحت الجلد ثم يري صوره لوجهها وفوقه قناع بلاستيكي ويري عيناها تنظر اليه ، نظره أمتدت لثانيه واحده أو ربما ثانيتين (عفواً هذا وصف خاطىء فنظرتها الأخيرة أمتدت لثلاثة عشره سنه فهو يراها كل ليله ويري نظرتها كل صباح ويراها في وجوه أصحاب الأسماء التي يكررها كل يوم قبل أن يخرج من بيته)
أمسك بالكتاب المقدس وتوقف عند مشهد يسوع وهو يصلي وحده على قمة الجبل، وتلاميذه جميعًا في البحر راكبين السفينة والأمواج تعصف بها وبهم ، تركهم المسيح معذبين بين الأمواج قرابة الليل كله وهم في وسط البحر، وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيًا على البحر" فتمتم بصوت قطعته الدموع
يسوع لا تتركني و تأتني في أيام عمري الأخيرة إن نفسي تأن عذاباً ،خلصني وهب لي نعمتك لأحمل صليبي وأتبعك"
طوي الاستاذ مكرم الكتاب المقدس ووضعه بجوار سريره وكان الليل طويلاً وثقيلاً ككل لياليه وما أن
نفذ نور الصباح الي غرفته نهض من سريره وتذكر "الدار" و "المراحيض" !
...................................................................
دار المسنين
كانت الفتاه تنتظره كل يوم في "الدار"، تحمل مشاعر ممتزجة تجاه الرجل فهو يثير سخطها لفظاظته وتجاهله للجميع وهو أيضاً يثير فضولها فهو لا يرد علي أي تحيه توجه اليه من أي شخص في الدار ، فقط يأتي ويذهب كأنسان آلي يقوم "بالخدمة " بشكل روتيني ولا يتحدث الا مع المسنين الموجودين في الدار فقط،
يأتي كل يوم ويبدأ اول ما يبدأ بتنظيف المراحيض وعلي الرغم من أنها في أغلب الأحيان تكون نظيفه الا أنه يعيد تنظيفها بنفسه مره أخري كل يوم ،
ازداد سخطها حين تذكرت يوم أن أرادت أن تتحدث إليه
- كيف حالك أستاذ "مكرم" ؟
رفع عينه اليها ورد بأقتطاب
- بخير !
ثم أشاح بوجهه عنها وأنصرف ، أثار حنقها ذلك السلوك الغريب فمن أبسط قواعد الذوق أن يرد اليها الحديث ويسألها هو الاخر عن حالها ، وهي من هي فتاه في مثل عمر بناته إن كان له بنات أو أبناء !
أستبدل ملابسه وأتجه نحو المراحيض فنظفها ثم راح يطوف بين حجرات الدار يلقي تحيه الصباح علي النزلاء ويجمع ما أتسخ من ثياب لتنظيفه ،
الجميع هنا يحترمونه ويكنون له حباً خفياً ، الكل يدرك أنه كان "يخدم" بروحه قبل جسده ، والكل يدرك أن روحه قد غادرت جسده منذ سنوات ،
الا تلك الفتاه فهي تحترمه من أعماقها ولكنها لا تطيق "فظاظته" خاصه في تلك اللحظات التي تجمع بينهما فهي تتوقع منه حسن المعامله او علي الأقل نفس المعامله التي تجمعه بنزلاء الدار
الفتاة تعمل في الدار وتشرف علي بيانات النزلاء ويجمعها أحاديث مع الاستاذ مكرم حين يدخل غرفه أحد النزلاء فلا يجده أو حين يجد نزيل جديد بالدار أو حين ينتقل أحدهم الي السماء أو حين يُمرض احدهم في المشفي تلك هي الظروف فقط التي يبادر الاستاذ مكرم بالحديث الي الفتاه
طلبت منه أحدي النزيلات أن يجلس الي جوار سريرها وأخذت تبث اليه شكواها من هجر أبنائها وما حل بها في أيامها الاخيرة ذلك النوع من الأحاديث المكروه في كل دار للمسنين
أخذ يستمع اليها في هدوء دون أن ينطق بكلمه ثم تحركت الدموع علي وجهها وكانت السيده تنتظر منه أن يجيب عليها ولم تكن تعلم أنه لم يكن يسمع ما تقول فلقد كان يصرخ من داخله صرخه لو خرجت منه لشقت صفحه السماء
كان يتألم طالباً الخلاص راجياً ملكوت السماء بينما عيناه تنظر الي صورة وجه أبنته وقناعها البلاستيكي "
بادرته السيده
- أشكرك أستاذ مكرم ، يبدو أنني قد أثقلت عليك بشكواي؟!
- لا عليك سيدتي ، أنت أمرأه طيبه !
- ليبارك اليسوع روحك
نهض من مكانه متأهباً للرحيل فلقد حان وقت زياره "سعيد" وبعدها زياره أستاذ "عادل" ثم سيعود الي الدار مره أخري
قام من مكانه ولا تزال الصور تطارده ومضي الي حال سبيله
مضت ساعات قبل أن يعود نحو التاسعة مساءً الي الدار وفور وصله فاجأته الفتاه
- معذره أستاذ مكرم ، لقد طلبت منك الا تأتي في تلك الساعه المتأخرة فمعظم من في الدار ينامون في ساعات مبكره ووجودك هنا قد يوقظهم ويأرق نومهم فلا يجدون للنوم سبيل
- المراحيض يجب أن تنظف والملابس قد جفت وعلي أن أرتبها وأوزعها امام الغرف قبل الصباح !
- من قال لك أن المراحيض تحتاج الي نظافه الان ؟ ومن أخبرك أنه لا يوجد أحد لجمع الملابس الجافه وتوزيعها علي الحجرات ؟!
- سأنظف المكان وسأرحب في هدوء دون أن أوقظ أحد
كان يريد أن يُنهك جسده بل يُعذبه الي أقصي حد إن أستطاع قبل أن يعود الي بيته ولم تستطع الفتاه منعه في تلك الليله ، كان العرق يتصبب منه وقد أختي ظهره الي الارض ينظيف البلاط وأخذ يحك قطعه القماش المببله بالماء بقوه وفي عصيبة تُخبر ببركان يمور ويتأهب للفظ حمامه علي المكان ظل يعمل لساعات حتي أُنهك تماماً فنهض وأنصرف في هدوء
........................................................
وفي صباح الْيَوْمَ التالي كانت الفتاه تتجهز للقائه في الدار وقد عزمت أمرها علي الا تسمح له بالحضور في الليل ولكنها لم تدرك ان الاستاذ مكرم
قد تحقق له ما أراده منذ ثلاثه عشر سنه، في صباح هذا الْيَوْمَ أنتظره نزلاء دار المسنين فلم يأتي وأنتظره مرضي السرطان فلم يأتي لخدمتهم ككل يوم !
صعدت روحه للسماء
اترك تعليق