شهد حفل افتتاح المتحف المصري الكبير حضورًا رفيع المستوى من قادة الدول والملوك والرؤساء والأمراء، فضلًا عن ممثلين لمنظمات ثقافية ودولية كبرى، وهو ما يعكس المكانة العالمية للمتحف كمشروع إنساني قبل أن يكون مشروعًا مصريًا. وفي مشهد بالغ الرمزية، تسلّم كل قائد من القادة الحاضرين نموذجًا مصغرًا من المتحف يحمل اسم دولته، ليضعه بيده في مكانه داخل مجسم ضخم يمثل المشروع، في إشارة إلى أن هذا الصرح ملك للبشرية جمعاء. ثم قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بوضع القطعة الأخيرة التي تمثل مصر، معلنًا رسميًا افتتاح المتحف في لحظة مؤثرة تمثل تتويجًا لسنوات من العمل والإنجاز
حملت احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير العديد من الرسائل متنوعة الأبعاد،من حيث أن الحضارة المصرية كانت وما تزال مصدر إلهام للبشرية في مجالات القانون والطب والهندسة والفلك والفن.
وسياسيًا، جاءت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسي لتجسِّد رؤية مصر لدورها في العالم، باعتبارها قوة سلام وإنسانية، إذ شَدَّد على أن "السلام هو الطريق الوحيد لبناء الحضارات"، وأن العلم لا يزدهر إلا في مناخ من الأمن والاستقرار، والثقافة لا تُثمر إلا عندما تتوفر بيئة من التعايش والتفاهم.
كما أشارت الكلمات الخالدة إلى رؤية قانون "ماعت" الذي وضعه المصري القديم قبل آلاف السنين، باعتباره أول إعلان لحقوق الإنسان وكرامة الطبيعة، حيث دعا إلى العمل والنظام واحترام الأرض والسماء وحماية الحياة، وهي القيم نفسها التي تؤمن بها مصر المعاصرة وتسعى لترسيخها في عالم اليوم، لتؤكد أن الحضارات الحقيقية لا تموت، بل تنتصر وتُعيد تعريف ذاتها في كل عصر.
وفي كلمات د. خالد العنانى المدير العام لمنظمة اليونسكو تم التأكيد على أن المتحف المصري الكبير يمثل نقطة التقاء نادرة بين الماضي والمستقبل، إذ يُقدَّم فيه التاريخ ليس ككلمات ساكنة، بل كقوة محرِّكة للفكر الإنساني وتدفعه نحو الابتكار.
كما أشار د. مجدى يعقوب في كلمته إلى أن الطب في مصر القديمة كان مهنة مقدسة تربط بين الجسد والروح، وأن الحضارة المصرية قدّمت للبشرية فكرة الرعاية الصحية الشاملة قبل آلاف السنين، وهي الفكرة نفسها التي تواصل مصر ترسيخها اليوم في سياستها الصحية والإنسانية.
وجاءت كلمة د. فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق لتستعرض الرحلة الطويلة التي مر بها المشروع منذ عام 2003، مشيرًا إلى أنه "كان حلمًا على الورق، لكن الإرادة المصرية جعلت منه واقعًا ملموسًا رغم كل التحديات". وأكد أن المتحف لا يقف فقط على أرض من التاريخ، بل على أرض من القيم التي أرساها الأجداد: التصميم، الإبداع، الإنجاز، والإيمان العميق بأن الحضارة رسالة تتناقلها الأجيال.
افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد احتفال بإنجاز معماري أو أثري، بل إعلان عن رؤية شاملة لمصر الحديثة التي ترى في ماضيها مصدرًا لقوتها الناعمة، وفي تراثها أداة لبناء المستقبل. إنه رسالة تقول إن الحضارة التي بنت الأهرامات لا تزال قادرة على إبهار العالم، لا بالحجر فقط، بل بالفكر والمعرفة والإنسان.
يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه اليوم ليس ليعرض الماضي فحسب، بل ليقدِّمه بوصفه حيًّا نابضًا في الحاضر، وقوة قادرة على تشكيل المستقبل. فالحضارة المصرية القديمة التي ألهمت الإغريق والرومان، وأرست أسس القانون والعدالة والفنون والعلوم، تعود اليوم في أبهى صورها لتلهم العالم مرة أخرى. هذه العودة ليست استدعاء للتراث من أجل الاعتزاز به فقط، بل دعوة للتعلم منه وفهم رسائله العميقة التي تتجاوز الزمن والجغرافيا.
"المتحف والسلام "
من داخل قاعات المتحف، تبدأ الحكاية من أول معاهدة سلام في التاريخ التي أبرمها الملك رمسيس الثاني في معركة "قادش"، لتؤكد أن السلام كان في قلب المشروع الحضاري المصري منذ فجره الأول. وتستمر الحكاية في قانون "ماعت" الذي وضع أول إعلان لمبادئ حقوق الإنسان وحماية البيئة، وفي المدن الغارقة تحت البحر التي ما زالت تشهد على اتساع أفق المصري القديم وقدرته على بناء مدن عابرة للعصور. وتصل الحكاية إلى اللحظة التي وقف فيها طفل صغير يحمل جزءًا من كنوز الحضارة داخل مقبرة توت عنخ آمون، فغيّر مجرى علم المصريات إلى الأبد.
كل زاوية في المتحف تحكي قصة، وكل قطعة أثرية تحمل رسالة، وكل جدار ينطق بدرس إنساني خالد. ومع ذلك، فإن المتحف ليس نهاية الحكاية، بل بدايتها الجديدة. فمن خلال مراكزه التعليمية والبحثية، ومنصاته التفاعلية، ومراكزه الثقافية والفنية، يتحول المتحف إلى فضاء حيّ للتفكير والبحث والإبداع، يستقبل ملايين الزوار من مختلف الثقافات، ويُتيح لهم فرصة أن يروا أنفسهم في مرآة التاريخ.
لقد أراد المصري القديم أن تكون حضارته خالدة، فبني ما يتحدى الزمن ويصمد أمام عوادي الدهر. واليوم، تؤكد مصر المعاصرة على هذا المعنى من جديد: أن الهوية ليست ماضيًا نختفي ، بل طاقة نستمد منها القوة لبناء مستقبل يليق بما بدأه الأجداد. إن افتتاح المتحف المصري الكبير لا يمثل مجرد إنجاز معماري أو أثري، بل إعلانًا جديدًا عن الدور الذي تلعبه مصر في صياغة الوعي الإنساني، ومساهمتها المستمرة في حوار الحضارات، وإيمانها بأن التراث لا قيمة له إذا لم يتحول إلى قوة قادرة على إضاءة طريق المستقبل.
ومن قلب القاهرة، على خط واحد مع الأهرامات التي أبهرت العالم، تقف اليوم هذه المؤسسة الحضارية العملاقة لتقول للعالم: إن مصر لا تزال كما كانت دائمًا، قلب التاريخ وعقله وروحه. إنها لا تقدم ماضيها على أنه ذكرى، بل كعهد جديد بينها وبين الإنسانية كلها: عهد يربط بين الحجر والإنسان، بين الفلك والفكر، بين ما كان وما سيكون.
"معلومات سريعة عن المتحف"
· الموقع: على هضبة الجيزة، على خط واحد مع أهرامات الجيزة الثلاثة.
· المساحة: نحو 500 ألف متر مربع.
· عدد القطع الأثرية: أكثر من 50 ألف قطعة تغطي جميع عصور الحضارة المصرية القديمة.
· مقتنيات توت عنخ آمون: 5000 قطعة تُعرض للمرة الأولى كاملة في مكان واحد.
· مراكب الملك خوفو: أقدم وأكبر مراكب خشبية في التاريخ، عُثر عليها مفككة وأعيد تركيبها دون استخدام مسمار واحد.
· المعروضات الكبرى: تمثال رمسيس الثاني بارتفاع أكثر من 11 متر، والمسلة المعلقة الوحيدة في العالم (11 طنًا).
· مرافق المتحف: مركز ترميم عالمي، مكتبة بحثية، قاعات عرض تفاعلية، قاعات مؤتمرات ومعارض مؤقتة، ومراكز تعليمية وترفيهية.
الرؤية
أن يكون المتحف مركزًا عالميًا للحضارة والحوار الثقافي،ومنصة لتقديم التاريخ الإنساني برؤية معاصرة.
بهذا الافتتاح، تكتب مصر فصلًا جديدًا في كتاب الحضارة الإنسانية، فالمشروع يبدأ من الماضي العريق، ويمتد بخطى واثقة نحو المستقبل، حيث تظل القاهرة مهد الحضارات قادرة على إبهار العالم وإثراء وعيه بما قدمته، وما تزال تقدِّمه، من نور ومعرفة وسلام.
من أبرز ما يميز المتحف، أنه سيضم للمرة الأولى في التاريخ جميع مقتنيات الملك توت عنخ آمون في مكان واحد، أكثر من 5000 قطعة أثرية، ومن بينها القناع الذهبي الشهير، والعجلات الحربية، والعرش الذهبي، وخنجر مصنوع من نيزك قادم من الفضاء. تعرض جميعها في تجربة بصرية وسردية تضع الزائر وجهًا لوجه أمام أحد أكثر العصور غموضًا وإثارة في تاريخ مصر القديمة. هذا التجميع غير المسبوق لمقتنيات توت عنخ آمون سيرفع المتحف إلى وجهة أساسية لعشاق علم المصريات من كل أنحاء العالم.
ولا تتوقف رواية المتحف عند هذا الحد: فهو يحتضن كذلك أهم وأضخم مراكب خشبية في التاريخ، وهي مراكب الملك خوفو التي عُثر عليها بجوار الهرم الأكبر، وقد تم اكتشافها مفككة إلى أكثر من 1200 قطعة خشبية، ثم أُعيد تركيبها بعناية مذهلة، دون استخدام مسمار واحد، لتكون شاهدًا على عبقرية الهندسة المصرية القديمة، وقدرتها على المزاج بين العلم والروحانية في رحلة الانتقال إلى العالم الآخر.
وفي ساحة المدخل الرئيسية، يستقبل الزوار تمثال ضخم للملك رمسيس الثاني، أحد أعظم ملوك مصر، يقف شاهدًا بارتفاع يزيد على 11 مترًا، ليكون أيقونة للمتحف وبوابة إلى عالم الحضارة. أما في البهوة الكبرى، تنتألق المسلة المعلقة الوحيدة في العالم، وهي مسلة الملك رمسيس الثاني التي يصل وزنها إلى 110 أطنان، وقد تم رفعها بأسلوب هندسي فريد يتيح للزائر السير تحتها والتأمل في تفاصيلها الملكية من جميع الزوايا.
وتُكمل هذه التجربة المذهلة مجموعة من القاعات التفاعلية التي تستحضر روح الحضارة المصرية في سياق حديث. فالمتاحف لم تعد مجرد أماكن للعرض الجامد، بل حاضنات للمعرفة والتفاعل. ومن خلال أحدث تقنيات العرض الرقمي والواقع المعزز، يمكن للزوار أن يشاهدوا المعابد كما كانت قبل آلاف السنين، وأن يتجولوا في المدينة الغارقة تحت مياه الإسكندرية القديمة، وأن يتابعوا رحلة النيل من منبعه إلى مصبه، في تجربة تعليمية وترفيهية فريدة.
كما يضم المتحف مكتبة بحثية متخصصة، ومركزًا للترميم يُعد من أكبر المراكز في الشرق الأوسط، ومرافق تعليمية تستهدف الطلاب والباحثين وعشاق التاريخ، إلى جانب قاعات للمؤتمرات والمعارض المؤقتة، ومناطق مخصصة للأنشطة الثقافية والفنية، ومجمعًا متكاملاً للمطاعم والمقاهي والمتاجر التي تقدم تجربة زيارة كاملة.
بهذا المحتوى الاستثنائي، يتحول المتحف المصري الكبير إلى أكثر من مجرد وجهة سياحية، إنه فضاء للمعرفة، ومنصة للحوار بين الحضارات، وجسر يربط ما بين ماضي الإنسانية وحاضرها ومستقبلها. إنه المكان الذي يجتمع فيه العلم بالجمال، والتاريخ بالفن، والزمن بالإنجاز الإنساني، في مشهد واحد يلخص عبقرية المصري القديم وعظمة ما تركه للبشرية.
لحظة الافتتاح ورسائلها الحضارية
لا يقتصر افتتاح المتحف المصري الكبير على كونه حدثًا ثقافيًا ضخمًا، بل هو مشهد رمزي يحمل دلالات أعمق تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ. فمن قلب أرض قدّمت للعالم أول مفاهيم الدولة والقانون والعدالة، تقف مصر اليوم لتؤكد أن الماضي لا يُحجز في المتاحف، بل يُعاد تقديمه كقوة فاعلة في بناء المستقبل.
اترك تعليق