منذ بدء العدوان الإسرائيلي علي غزة في أكتوبر 2023. لم يعد رؤوف. عامل البناء الفلسطيني من الضفة الغربية المحتلة. إلي عمله في إسرائيل إلا مرة واحدة. في يوليو 2024. بعد تسلقه الجدار الفاصل بين الضفة الغربية المحتلة وإسرائيل.
وألقت الشرطة الإسرائيلية القبض عليه خلال مداهمة لموقع بناء تابع لصاحب عمله. وحُكم عليه بالسجن 38 يومًا لدخوله دون تصريح.. ليعود بعدها رؤوف الآن إلي الضفة الغربية. وهو ممنوع من دخول إسرائيل حتي عام 2027.
ألغت السلطات الإسرائيلية تصريح عمل "رءوف" وفق تقرير لمجلة فورين بوليسي" الأمريكية. بعد عملية " طوفان الأقصي" التي نفذتها الفصائل في المستوطنات بغلاف غزة في 7 أكتوبر 2023. كما هو الحال مع نحو 115 ألف فلسطيني آخرين من الضفة الغربية المحتلة يحملون تصاريح عمل أيضًا.
بعد مرور ما يقرب من عامين علي الحرب. لم يتم إعادة سوي نحو 8000 تصريح. ومع وجود مئات الآلاف من الفلسطينيين عاطلين عن العمل. ارتفعت معدلات البطالة بشكل حاد لتتجاوز 30% في الضفة الغربية المحتلة. وذلك وفقًا لآخر بيانات جمعت في سبتمبر 2024. لتقترب من أعلي مستوي لها علي الإطلاق.
لا يقتصر الأمر علي ندرة فرص العمل في الأراضي المحتلة. بل إن القيود الاقتصادية التي فرضتها إسرائيل قبل الحرب -مثل حجب عائدات الضرائب الفلسطينية- خنقت سوق العمل في الضفة الغربية المحتلة.
في العام الأول من الحرب علي غزة. وجدت دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية أن ساعات عمل أكثر من 50% من موظفي الضفة الغربية المحتلة انخفضت. وأن دخول أكثر من 60% انخفضت. وأن 65% من الشركات قلّصت قوتها العاملة.
نقص فرص العمل المتاحة في الضفة الغربية. إلي جانب الخيارات القانونية للعمل في إسرائيل. يعني أن المزيد من العمال قد يعرّضون حياتهم للخطر لمجرد كسب لقمة العيش.
قال رءوف: "نخاطر بالعبور إلي إسرائيل ونعمل بكل ما في وسعنا لإعالة عائلاتنا. لكن الكثيرين يدفعون ثمنًا باهظًا إما لتعرضهم للإصابة أو لإطلاق النار أو السقوط من علي السياج أثناء عبورهم".
نتيجة لارتفاع معدلات البطالة إلي مستويات قياسية. تضاعف معدل الفقر في الضفة الغربية المحتلة بعد عام من الحرب. وفقًا للخبير الاقتصادي الفلسطيني ناصر عبد الكريم. الذي قال إن ثلث العائلات هناك تعيش الآن في فقر.
صرّح "عبد الكريم" لمجلة "فورين بوليسي": "كانت أجور العمال الفلسطينيين في إسرائيل مصدر الدخل الرئيسي للاقتصاد الفلسطيني. وخاصة في الضفة الغربية".
ورغم أهمية خسارة الوظائف. فإنها لا تشكل سوي عامل واحد في المعادلة التي تؤدي إلي تدهور اقتصاد الضفة الغربية.
حتي قبل الحرب علي غزة. احتجزت إسرائيل عائدات الضرائب المخصصة للضفة الغربية. ومنذ عام 2019. وكعقاب علي دفعها رواتب لعائلات الأسري الفلسطينيين والشهداء الفلسطينيين علي يد القوات الإسرائيلية. احتجزت إسرائيل ما يقرب من 8 مليارات شيكل "نحو 2.3 مليار دولار" من عائدات الضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية. الهيئة الحاكمة للضفة الغربية.
بموجب اتفاقيات أوسلو - اتفاقية السلام المؤقتة الموقعة في التسعينيات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية - تجمع وزارة المالية الإسرائيلية عائدات الضرائب نيابة عن السلطة الفلسطينية وتحولها شهريًا.
وبعد هجوم 7 أكتوبر 2023. قررت الحكومة الإسرائيلية حجب عائدات ضريبية إضافية مخصصة لدفع رواتب موظفي القطاع العام التابعين للسلطة الفلسطينية في غزة. بحجة أن هذه الأموال قد تصل إلي أيدي حماس.
احتجاجًا علي ذلك. رفضت السلطة الفلسطينية استلام أي من تحويلات عائدات الضرائب المتبقية من إسرائيل. لذلك. قررت إسرائيل في يناير 2024 إيداع أموال غزة في صندوق استئماني نرويجي. علي أن يفرج عنها بإذن من وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف بتسلئيل سيموتريتش.
استمر العمل بهذا النظام حتي مايو 2024. عندما اعترفت النرويج بدولة فلسطينية. ما أثار غضب سيموتريتش. الذي أنهي الاتفاق. ورغم دفع عدة دفعات منذ انتهاء الاتفاق. إلا أن عائدات الضرائب ظلت محجوزة خلال الأشهر الأربعة الماضية.
حتي مع تحويل بعض الأموال. لم تتمكن الحكومة إلا من دفع ما بين 50% و70% من الرواتب. وبدون هذه الأموال. تضطر السلطة الفلسطينية إلي الاقتراض من البنوك لدفع الرواتب. وأضاف عبد الكريم: "لهذا السبب ارتفع الدين العام إلي ما يقرب من 13 مليار دولار. وهو ما يزيد علي 130% من الناتج المحلي الإجمالي لفلسطين".
وما زاد من تفاقم الأزمة الاقتصادية. بعدما أمر سيموتريتش في يونيو الماضي بإلغاء الإعفاء من الحماية للبنوك الإسرائيلية التي تتعامل مع المؤسسات المالية التابعة للسلطة الفلسطينية. بعد ساعات من فرض المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا والنرويج عقوبات مشتركة علي سيموتريتش.
يصدر هذا الضمان سنويًا. وهو يحمي البنوك الإسرائيلية من أي إجراءات قانونية محتملة في حال اتهمت السلطة الفلسطينية بتمويل الإرهاب. وبدونه. يرجح أن تقطع هذه البنوك الإسرائيلية علاقاتها مع نظيراتها الفلسطينية. ما يؤدي إلي ظهور اقتصاد نقدي وسوق سوداء.
وبينما تعمل سلطة النقد الفلسطينية كبنك مركزي. إلا أنها عاجزة عن طباعة نقودها الخاصة. وتعتمد بشكل كبير علي علاقاتها بالبنوك الإسرائيلية. سيؤدي قطع الصلة المالية بين الضفة الغربية المحتلة وإسرائيل إلي تعطيل التجارة في الأراضي المحتلة. وعزل البنوك الفلسطينية عن النظام المالي العالمي. لن يدخل قرار سموتريتش حيز التنفيذ إلا في نوفمبر المقبل. وهو الموعد المقرر لتجديد الإعفاء.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني إلي فورين بوليسي. كتب إيهاب محارمة. الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة: "إذا قطعت البنوك الإسرائيلية علاقات المراسلة مع البنوك الفلسطينية. فلن يتمكن الاقتصاد من استيراد الطاقة والغذاء. أو دفع ثمن الخدمات. أو حتي تغطية رواتب القطاع العام".
يفاقم فائض الشيكل الإسرائيلي في السوق الفلسطينية المشاكل النقدية الفلسطينية. وكجزء من اتفاقيات أوسلو. أنشأ بروتوكول باريس للعلاقات الاقتصادية. الموقع عام 1994. علاقات جمركية وتجارية وضريبية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وأقر الشيكل الإسرائيلي عملة مستخدمة في الأراضي المحتلة.
بموجب هذا البروتوكول. تقبل إسرائيل تحويلات مالية بالشيكل من البنوك الفلسطينية إلي البنوك الإسرائيلية المقابلة. بحد أقصي 18 مليار شيكل سنويا. إلا أن السوق الفلسطينية اكتسبت خلال العقد الماضي فائضًا من هذه الأموال.
قال عبد الكريم: "الشيكل غير متداول في الاقتصاد. لذا ينتهي به الأمر في البنوك". وأضاف: "البنوك الآن لا تقبل ودائع ضخمة. ولهذا السبب يجد الفلسطينيون صعوبة في سداد شيكاتهم وإجراء التحويلات المالية. بسبب القيود المفروضة علي الودائع. كما تجد البنوك صعوبة في تمويل الصادرات التجارية من إسرائيل لعدم وجود رصيد كافي في حساباتها".
مع اندلاع الحرب. كثّف الجيش الإسرائيلي مداهماته لمراكز الصرافة في الضفة الغربية المحتلة. وبزعم أن هذه المداهمات ضرورية لمنع تمويل الإرهاب. استولي الجيش الإسرائيلي علي ملايين الدولارات منذ أكتوبر 2023 من هذه المراكز.
وأوضح "محارمة" أن العمال الفلسطينيين ومؤسسات الضفة الغربية يعتمدون بشكل كبير علي هذه المراكز لمعالجة الشيكات المؤجلة وإرسال المدفوعات واستلام الأموال من الخارج. وهو ما أصبح حيويًا بشكل خاص في ظل القيود المالية العديدة التي فرضتها إسرائيل علي البنوك الفلسطينية.
كتب "محارمة": "هذه المحلات ضرورية لأنها تتداول فيها الدولار الأمريكي والدينار الأردني. وهما عملتا الادخار المفضلتان علي الشيكل الإسرائيلي. ويؤدي تعطيلها إلي نقص حاد في السيولة النقدية. ما يُزيد من صعوبة المعاملات اليومية". وأضاف: "إن تقييد هذه المحلات هو بمثابة استهداف للحياة اليومية نفسها. وتحويل ضرورة أساسية للبقاء إلي أداة أخري للضغط علي الفلسطينيين ودفعهم إلي الهجرة".
مع تدهور المسار الاقتصادي للضفة الغربية. من المرجح ألا يكون هناك ما يمكن فعله لمنع الانهيار التام. قال عبد الكريم: "علي المستوي الفني. لا تستطيع السياسة الفلسطينية فعل أي شيء. سوي خفض الميزانية وزيادة الإيرادات". مؤكدًا أن هذه الأساليب إما مستخدمة بالفعل من خلال خفض الرواتب. أو لا يمكن تطبيقها. كما هو الحال مع زيادة الضرائب علي سكان يزداد فقرهم.
لذلك. يري الخبراء أن الحل الوحيد للأزمة المالية المستمرة في فلسطين هو حل سياسي. أي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإرساء السيادة الفلسطينية. بدلًا من وجود قيادة متشابكة مع الاقتصاد الإسرائيلي.
قال عبد الكريم: "لا يمكننا أن نتوقع من الاقتصاد الفلسطيني والشعب الفلسطيني استعادة جزء علي الأقل من ثروتهم ودخلهم وقدرتهم علي الإنفاق والعيش الكريم علي الأقل. دون توفر الشروط السياسية الأساسية". ويري أن هذا يعني أولًا إنهاء الحرب علي غزة والسماح بدخول البضائع إلي القطاع المحاصر. ثم التفاوض علي حل سلمي لإنهاء عقود من العنف بين فلسطين وإسرائيل.
بالنسبة لـ"رءوف". والعديد من العمال الفلسطينيين أمثاله. لا يبدو أي حل في الأفق أو حتي قريبًا. قال رؤوف: "يبدو الوضع ميؤوسًا منه ولا نهاية له. خاصة في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية.. لا أعتقد أنهم سيسمحون للعمال الفلسطينيين بالعودة إلي إسرائيل".
ويتجلي هذا الشعور بوضوح في ظل تنفيذ الحكومة الإسرائيلية حاليًا خططًا لاستبدال العمال الفلسطينيين بمئات الآلاف من العمال المهاجرين. وأضاف رءوف: "لن تتغير الأمور. بل هناك نوع من اليأس. وقد يتجلي هذا اليأس في تسلق جدار والمخاطرة بالاعتقال. فقط من أجل كسب قوت يومك".
اترك تعليق