في قلب محافظة الشرقية، حيث يمتزج عبق الماضي بواقع الحاضر، تقف قرى كفر محمد جاويش والمشهدي حراسًا لإحدى أقدم الحرف التي ورثها المصريون عبر العصور، ألا وهي صناعة الفخار، بين جدران الطوب اللبن وأفران الطين التقليدية، يتنفس التاريخ، ويُعيد الحرفيون تشكيل الطين ليخرج من بين أيديهم إبداعٌ صامت يحمل روح الحضارة المصرية القديمة، من القلل والمبردات وحتى أواني الطهي وأحواض الزرع التي ما زالت تحتفظ بقيمتها وسط زحام الأدوات العصرية.
كفر محمد جاويش تُعد أقدم قرية مصرية في صناعة الفخار، حيث تنتشر الفواخير في أزقتها وتتعالى أصوات الطرق على الطين مع حفيف الأيدي التي تُشكّله لتمنحه الحياة. أما قرية المشهدي، فهي فخر الشرقية في هذا المجال، إذ تحتفظ بسر صناعة الفخار الأسمر النادر على مستوى الجمهورية، وهو سر لا يعرفه إلا أبناؤها. ورغم أن هذه الحرفة العريقة تواجه تحديات اقتصادية وتراجعًا في الإقبال، فإن رجالها – الذين تخطى أغلبهم الخمسين – ما زالوا يقاومون من أجل أن يظل الطين شاهدًا على حضارة لا تنطفئ.
قال محمد احمد ان صناعة الفخار تمر بمراحل دقيقة تبدأ من تحضير الطين الأصفر وتخميره، مرورًا بتليينه وتشكيله إلى "عمدان"، وصولًا إلى تشكيل القلل والأباريق وأدوات الطهي. وبعدها تُترك لتجف تحت الشمس، قبل أن تدخل أفران "القماين" حيث تصل درجة الحرارة إلى نحو 900 درجة مئوية، لتخرج القطع متينة بألوانها المميزة. ويؤكد الحرفيون أن الفخار ليس مجرد أداة، بل خيار صحي وبيئي أفضل للطهي وحفظ الماء، إذ تظل مياه القلل الفخارية أنقى وأبرد من مياه الفلاتر الحديثة.
قال المهندس حازم الأشموني محافظ الشرقية: "إن صناعة الفخار في قرى الشرقية ليست مجرد مهنة أو مصدر رزق، بل هي عنوان لتراث حضاري ضارب بجذوره في عمق التاريخ المصري، ورسالة تؤكد قدرة أبناء الشرقية على الحفاظ على الهوية الوطنية عبر الأجيال."
وأضاف: "نولي اهتمامًا كبيرًا بدعم هذه الحرف التراثية من خلال إدراجها ضمن خطط التنمية المحلية، وتوفير برامج تدريبية للأجيال الشابة لضمان استمرارها، فضلًا عن التوسع في التسويق الإلكتروني وفتح قنوات للتصدير بما يتناسب مع قيمتها التاريخية والفنية."
وختم الأشموني: أن الشرقية ماضية في استثمار ما تمتلكه من مقومات تاريخية وثقافية، وصناعة الفخار في كفر محمد جاويش والمشهدي نموذج حيّ على أن الإرث الحضاري إذا امتزج بالإبداع المعاصر يمكن أن يكون مصدر قوة اقتصادية وحضارية يُسهم في بناء الجمهورية الجديدة.
اترك تعليق