تواصل إدارة الرئيس الأميركي ترامب استخدام الرسوم الجمركية كعصا لمعاقبة الدول والانظمة المناهضة له، وكان آخر هذه القرارات فرض رسوما جمركية جديدة على الواردات الهندية في قطاع صناعة الملابس بالهند، حيث بدأت شركات كبرى تتلقى اتصالات عاجلة من عملائها الأمريكيين يطالبون فيها إما بالمشاركة في تحمل التكلفة الإضافية أو نقل الإنتاج إلى دول أخرى.
ولتفادي الرسوم التي تصل إلى 50% على المنتجات الهندية، عرضت بعض الشركات تحويل عملياتها إلى مصانعها في بنجلادش أو فيتنام أو إندونيسيا أو جواتيمالا، وفقا لشبكة "ياهو فاينانس" الأمريكية الاقتصادية.
كل هذا فتح الباب على البحث عن مخرج لمثل هذه الرسوم، وكيفية التغلب عليها ، وهل ذلك يكون من خلال نقل المصانع إلى بلدان اخرى؟! ام من خلال التكتلات الاقتصادية الدولية والتى يعتبرها البعض قادرة على هزيمة ترامب ورسومه وعملته؟!
ام أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على كسب الجولة وفرض نفوذها على دول العالم ؟!
فلا يكاد يمر يوم دون أن يتباهى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإيرادات الرسوم الجمركية القياسية التي جمعتها الحكومة منذ أن رفع الضرائب على السلع المستوردة كافة تقريباً، وأشار ترامب أنفا إلى إيرادات الرسوم الجمركية قائلاً: «لدينا أموال طائلة، أموال أكثر بكثير مما شهدته البلاد في أي وقت مضى».
فقد جمعت الحكومة الأميركية ما يقرب من 30 مليار دولار من إيرادات الرسوم الجمركية الشهر الماضي وفقاً لوزارة الخزانة، ويمثّل ذلك قفزة بنسبة 242% في إيرادات الرسوم الجمركية مقارنة بشهر يوليو الماضي، وجمعت الحكومة ما مجموعه 100 مليار دولار من إيرادات الرسوم منذ أبريل الماضي.
أكد د. ماجد الباز الاستاذ المساعد بكلية التجارة جامعة قناة السويس ان السياسة الاقتصادية الامريكية الجديدة والتي تعتمد على استخدام الرسوم الجمركية بشكل رئيسي كأداة ضغط عالمية، أثارت تساؤلات مصيرية حول مستقبل النظام التجاري العالمي، فهل يمكن لدول العالم وخاصة القوي الاقتصادية مثل الصين وروسيا وهما أكبر المتضررين منها أن تتغلب على هذه الرسوم وتجعلها والعدم سواء؟ وهل التكتلات الاقتصادية الدولية قادرة على الحد من آثار السياسات الجمركية الامريكية؟ أم أن الولايات المتحدة الأميركية ستكسب هذه الجولة الاقتصادية وتفرض نفوذها بشكل أكبر على العالم؟
أشار د. الباز الي ان هناك العديد من الاستراتيجيات الاستباقية التي يمكن للدول اتباعها للتعامل مع الرسوم الجمركية الامريكية ومنها تنويع سلاسل الإمداد فبدلاً من الاعتماد بشكل كبير على سوق واحدة سواء في الاستيراد أو التصدير، تستطيع الدول البحث عن شركاء تجاريين جدد في مناطق أخرى من العالم وخاصة دول القارة الافريقية بما تتميز به من أسواق استهلاكية كبيرة ومصدر مواد خاص واعد، هذا التنويع لا يقلل فقط من المخاطر المرتبطة بالقرارات الاقتصادية الامريكية، بل يفتح أيضاً أسواقاً جديدة وفرصاً للنمو الاقتصادي
ومن جانب أخر يمكن للدول أن تركز على تعزيز الإنتاج المحلي وتقديم الدعم اللازم للصناعات الوطنية وتوطين تكنولوجيا التصنيع، وهذا النهج يقلل من الحاجة إلى استيراد السلع الخاضعة للرسوم، ويعزز الاكتفاء الذاتي، ويخلق فرص عمل داخلية، وأيضاً لا يمكن إغفال امكانية اللجوء إلى الضغوط الدبلوماسية والتفاوض مع الولايات المتحدة بشكل مباشر، على الرغم من أن هذا الخيار قد يكون صعباً الي حد ما في ظل الإدارة الامريكية الحالية والتي تميل الي فرض المزيد من الرسوم الجمركية كخيار استراتيجي للتعامل مع دول العالم وبنهج متزايد.
وأكد د. الباز علي الدور الجوهري في الوقت الحالي للتكتلات الاقتصادية الدولية في مواجهة النفوذ والهيمنة الأمريكية، حيث إن هذه التكتلات مثل الاتحاد الأوروبي ومجموعة بريكس والتي مصر دولة عضو بها، تتمتع بقدرة كبيرة على مواجهة السياسات الجمركية للولايات المتحدة، وتكمن قوة هذه التكتلات في حجم أسواقها المشتركة وقدرتها على صياغة سياسات تجارية موحدة، فعندما تتخذ هذه الدول موقفاً موحداً، فإنها تستطيع ممارسة ضغط أكبر على الولايات المتحدة وتقليل الاثار السلبية لسياساتها الجمركية بل ومن الممكن الوصول الي إجبارها علي الغاء هذه الرسوم، بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه التكتلات أن تعزز استخدام عملاتها المحلية في التجارة البينية، مما يقلل من الاعتماد على الدولار الأميركي، وعلى الرغم من أن الدولار لا يزال العملة الاحتياطية العالمية الرئيسية، فإن أي محاولة ولو بشكل بسيط للابتعاد عنه في التبادل التجاري بين الدول قد تقلل من النفوذ الاقتصادي للولايات المتحدة الامريكية على المدى الطويل، وهذا التحول ليس سهلاً أو سريعاً، ولكنه يظل خياراً استراتيجياً مطروحاً.
وأشار د. الباز أن التحدي الأكبر يتمثل في تتمتع الولايات المتحدة بمزايا هائلة، أبرزها قوة اقتصادها وهيمنة الدولار علي الاقتصاد العالمي كعملة تبادل تجاري، مما يمنحها قدرة هائلة على فرض العقوبات والتأثير على الاقتصادات العالمية، بالإضافة الي ان حجم السوق الاستهلاكي الأميركي يجعلها وجهة لا يمكن الاستغناء عنها للعديد من الدول وخاصة جنوب شرق أسيا
ومن ناحية أخرى، فإن العالم اليوم أكثر ترابطاً وتعدداً للأقطاب من أي وقت مضى خاصة مع بروز الصين وروسيا كأقطاب اقتصادية، وبالتالي فإن إفراط الولايات المتحدة الامريكية في استخدام الرسوم الجمركية قد يدفع الدول إلى البحث عن بدائل، مما يقلل من النفوذ الأميركي على المدى الطويل، كما أن الشركات الأميركية نفسها قد تتأثر سلباً بالرسوم الجمركية المتبادلة، وبالتالي فإن هذه الجولة من الصراع التجاري تحت عنوان الرسوم الجمركية بين أمريكا والاقطاب الاقتصادية الكبرى مثل الصين ليست محسومة بعد، وقدرة الدول على التكيف والتنسيق داخل التكتلات الاقتصادية، جنباً إلى جنب مع استعدادها لتبني استراتيجيات جريئة، ستحدد شكل الاقتصادي العالمي الجديد وهو سيكون أحد السيناريوهات الثلاثة التالية: أن تصبح الرسوم الجمركية الامريكية مجرد عقبة اقتصادية عالمية مؤقتة، أو سبب إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، أو وسيلة لزيادة النفوذ الاقتصادي الأمريكي، وهو الامر الذي سيتكشف في الشهور القليلة القادمة.
يقول د. حامد نبيل الاستاذ المساعد بكلية التجارة جامعة المنصورة ان سلاح الرسوم الجمركية تحول من أداة اقتصادية تقليدية إلى سلاح سياسي واقتصادي حاد، يلوّح به البيت الأبيض لمعاقبة الدول التي تتبنى سياسات مخالفة أو مناهضة لواشنطن. فلم تعد هذه الرسوم مجرد أرقام تُضاف إلى فواتير الصادرات، بل باتت أشبه بـ "العصا الغليظة" التي يُراد بها إعادة تشكيل موازين القوى التجارية في العالم.
ومع تصاعد هذا النهج، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن لدول العالم أن تتغلب على هذه الرسوم وتُحيِّد تأثيرها حتى تصبح وكأنها لم تكن؟ وهل هذا ممكن فعلًا، أم أنه أقرب إلى التمنّي السياسي؟
أوضح ان أسلحة المواجهة تتنوع من التكتلات الكبرى لتصل إلى إعادة رسم خرائط التجارة العالمية، ويقدم التاريخ الاقتصادي مثالًا واضحًا على ذلك؛ فكلما اشتعلت الحروب التجارية، لجأت الدول إلى بناء تكتلات اقتصادية تُعزِّز قوتها التفاوضية، مثل الاتحاد الأوروبي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، واتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، مثل هذه التحالفات تمنح أعضاءها القدرة على تبادل السلع والخدمات دون قيود جمركية داخلية، ما يُقلِّل من الاعتماد على السوق الأميركي ويُضعف تأثير الرسوم التي تفرضها واشنطن. كما قد تلجأ بعض الدول إلى استراتيجيات التفافٍ مبتكرة، منها تنويع أسواق التصدير والاستيراد، أو إعادة توجيه سلاسل التوريد عبر دولٍ وسيطة لا تشملها الرسوم. هذه الطريقة طبقتها بعض الاقتصادات الكبرى خلال الحرب التجارية الأميركية الصينية، ونجحت في تقليل حدة الخسائر إلى حدٍ كبير.
وعلى الجانب الآخر، تُعد العملة سلاحًا آخر في المعركة؛ فقوة الدولار كسلاح أميركي لا تقل عن قوة الرسوم الجمركية، إلا أن الدول المتضررة تستطيع الرد بسياسات نقدية مضادة، مثل خفض قيمة العملة المحلية للحفاظ على تنافسية الصادرات. ورغم ما قد يحمله ذلك الأمر من مخاطر تضخمية، إلا أنه يظل أداةً مؤقتة لمعادلة الكفة في مواجهة التعريفات الأميركية.
وعلى الرغم من قوة التكتلات الاقتصادية، تبقى الولايات المتحدة لاعبًا محوريًا في الاقتصاد العالمي. حجم سوقها الاستهلاكي، ونفوذها المالي، وشبكة تحالفاتها السياسية، تجعلها قادرة على فرض إرادتها في كثيرٍ من الأحيان. ومع ذلك، فإن إصرار قوى اقتصادية كبرى مثل الصين، والاتحاد الأوروبي، والهند على بناء بدائل تجارية ومالية، قد يَحُد من قدرة واشنطن على تحقيق أهدافها كاملة.
والحقيقة التي لا يمكن إغفالها بأي حالٍ من الأحوال، أن أي مواجهة اقتصادية بهذا الحجم لن تُحسم خلال جولة واحدة. فقد تكسب الولايات المتحدة بعض المعارك بفضل قوتها الشاملة، لكن العالم اليوم أكثر ترابطًا وتعددًا في مراكز القوى مما كان عليه قبل عقود. لذا، فإن التحالفات الاقتصادية والتكتلات التجارية قد لا تُسقط سلاح الرسوم الجمركية نهائيًا، لكنها بلا شك قادرة على تقليص فاعليته وتحويله من عصا غليظة إلى ورقة تفاوض على الطاولة.
يقول د. عطا عيد مدرس التمويل والاستثمار بالجامعة المصرية الصينية انه في مشهد يعكس تحوّلًا جذريًا في السياسات التجارية العالمية، أصرّت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على استخدام الرسوم الجمركية كأداة عقابية ضد الدول التي تعارض توجهاتها السياسية أو الاقتصادية. هذه السياسة، التي اتخذت شعار "أميركا أولًا"، لم تكن مجرد إجراءات اقتصادية، بل كانت إعلانًا صريحًا عن رغبة واشنطن في إعادة تشكيل قواعد اللعبة التجارية الدولية.
لكن السؤال الجوهري - هل يمكن لدول العالم أن تتغلب على هذه الرسوم وتُفقدها تأثيرها؟ وهل التكتلات الاقتصادية قادرة على مواجهة الهيمنة الأميركية؟ أم أن الولايات المتحدة، بما تملكه من أدوات نفوذ، ستظل الطرف الأقوى في المعادلة؟
ولقد واجهت العديد من الدول هذه السياسات الحمائية بردود فعل بالمثل كأولى خطوات المقاومة حيث قامت الصين بفرض رسومًا مضادة على المنتجات الأميركية، مما أشعل فتيل حرب تجارية واسعة النطاق, وكذا قام الاتحاد الأوروبي وكندا ذات الإجراءات المماثلة مستندتين إلى مبدأ المعاملة بالمثل.
هذه الردود، وإن كانت محدودة التأثير على المدى القصير، إلا أنها شكلت بداية لتحدي الهيمنة الأميركية في المجال التجاري.
أوضح، أما التكتلات الاقتصادية الدولية مثل الاتحاد الأوروبي، ومجموعة بريكس فتمتلك أدوات استراتيجية لمواجهة السياسات الأميركية منها التفاوض الجماعي الذي يمنح الدول الصغيرة صوتًا أقوى في المحافل الدولية، وكذا الأسواق البديلة الي تقلل من الاعتماد على السوق الأميركي وتفتح آفاقًا جديدة للتجارة، فضلاً عن أن التنسيق السياسي والاقتصادي يعزز من قدرة هذه التكتلات على فرض مواقف موحدة.
ورغم تلك التحديات تظل الولايات المتحدة قوة اقتصادية لا يُستهان بها استناداً إلى هيمنة الدولار والتي تمنحها قدرة كبيرة على التأثير في حركة التجارة العالمية فضلاً عن النفوذ السياسي والدبلوماسي واللذان يتيحا لها فرض إرادتها في العديد من الملفات ولا يمكن اهمال التفوق التكنولوجي الذي يجعل من منتجاتها ضرورة في الأسواق العالمية.
أضاف إن المواجهة بين السياسات الحمائية الأميركية وردود الفعل الدولية ليست مجرد خلاف تجاري، بل هي صراع على شكل النظام العالمي القادم. وبينما تسعى واشنطن لفرض رؤيتها، تتحرك الدول الأخرى لبناء نظام أكثر توازنًا وعدالة.
تساءل د. عيد، هل تنجح هذه الدول في تحويل الرسوم الجمركية إلى مجرد أوراق ضغط بلا تأثير؟ أم أن الولايات المتحدة ستظل تمسك بزمام المبادرة؟ الإجابة لا تزال قيد التشكل، لكن المؤكد أن العالم لم يعد يقبل بسياسة العصا دون جزرة.
يقول د. الحسن قطب رضوان المدرس بكلية التجارة جامعة أسيوط أنه منذ لحظة توليه الرئاسة، تبنّى دونالد ترامب نهجًا اقتصاديًا تصادميًا، مستخدمًا الرسوم الجمركية كسلاح لمعاقبة الدول التي صنفها كخصوم اقتصاديين، وفي مقدمتها الصين والاتحاد الأوروبي. وقد أثارت هذه السياسة توترات تجارية غير مسبوقة، دفعت العديد من الدول إلى إعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية ومحاولة كسر الهيمنة الأميركية على النظام التجاري العالمي.
ولمواجهة هذه الرسوم, لجأت الدول المتضررة إلى تنويع شركائها التجاريين، وفرض رسوم مضادة على السلع الأميركية, واللجوء إلى منظمة التجارة العالمية، ، فضلاً عن تعزيز التكتلات الاقتصادية مثل الاتحاد الأوروبي
ورغم مقاومة هذه السياسات، لا تزال الولايات المتحدة تملك أوراق قوة هائلة: أكبر سوق استهلاكي، هيمنة الدولار، وتفوق تكنولوجي. لكن التوجه العالمي نحو فك الارتباط الجزئي معها يشير إلى أن فاعلية هذه السياسات قد لا تدوم طويلًا. وفي حين أن المعركة الاقتصادية لم تُحسم بعد، إلا أن المؤكد أن العالم بات أكثر وعيًا بطبيعة السياسات الأميركية، وأكثر جدية في السعي نحو بناء توازنات جديدة تُقلل من الاعتماد على واشنطن. الجولة لا تزال مفتوحة، والمواجهة مستمرة.
اترك تعليق