الحلف بالله هو من أشد الأيمان وأعظمها في الشريعة الإسلامية. وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية التأكيد على احترام اليمين والالتزام به، حيث يُعد الحلف بالله أمرًا عظيمًا يستدعي التفكر والوعي قبل إقراره. وفي الوقت نفسه، حذرنا الإسلام من التسرع في الحلف بالله عز وجل دون الحاجة. لأن الاخلال بالحلف يترتب عليه كفارة وذنوب شرعية، وهو ما يجعل المسلم في حاجة دائمة إلى التفكر والتقدير قبل اللجوء الى الحلف..
وفي سياق متصل تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالاً جاء فيه: اقسمت بالمصحف الشريف ألا أتزوج بنت عمّي إلى الأبد. وكررت هذا اليمين عشر مرات. والآن ارغب في الزواج منها؛ لزوال الموانع التي دفعتني للحلف. فما هو الحكم الشرعي في هذه الأيمان، وهل يحل لي الزواج من بنت عمي؟
وأجابت: إن الحلف على المصحف يمين بالله تعالى؛ قال صاحب "مجمع الأنهر": [وفي "الفتح": وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَلِفَ بِالْمُصْحَفِ الْآنَ مُتَعَارَفٌ فَيَكُونُ يَمِينًا. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: لَوْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ أَوْ قَالَ: وَحَقُّ هَذَا فَهُوَ يَمِينٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْحَلِفُ بِهِ] اهـ.
وأوضحت الفتوى أن هذا من باب الحلف الشرعي؛ لأنه حلف بكلام الله تعالى وهو صفة من صفاته فلا يعتبر حلفًا بغير الله. وقد قال العلامة ابن الهمام في "الفتح" من (كتاب الأيمان في تعدد الأيمان ووحدتها): [لَوْ قَالَ: وَاللهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ثُمَّ أَعَادَهُ بِعَيْنِهِ فَكَفَّارَتَانِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاللهِ لَا أَقْرَبُك، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَا أَقْرَبُك فَقَرُبَهَا مَرَّةً لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رضي الله عنه، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ.
وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّهُ إنْ نَوَى بِالثَّانِي الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ صَدَقَ دِيَانَةً، وَهِيَ عِبَارَةٌ مُتَسَاهَلٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُرِيدَ بِالثَّانِي تَكْرَارَ الْأَوَّلِ وَتَأْكِيدَهُ.. وعن أبي حنيفة: إِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ؛ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ وَالْمَجْلِسُ وَالْمَجَالِسُ فِيهِ سَوَاءٌ..
وَمَا فِي الْأَصْلِ: مِنْ أَنَّهُ إذَا قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَيَمِينَانِ؛ يُفِيدُ أَنَّ فِي مِثْلِهِ تَعَدُّدَ الْيَمِينِ مَنُوطٌ بِتَكَرُّرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ تَكَرُّرِ الِالْتِزَامِ بِالْكُفْرِ] اهـ.
وفي حادثة السؤال: يقول السائل إنه حلف بقوله: أقسم بهذا المصحف الشريف ألا أتزوج بنت عمي إلى الأبد والنهاية مهما كانت الظروف والأسباب، وأنه كرر هذا القسم عشر مرات.
وتطبيقًا لما تدل عليه النصوص المذكورة: هذا الحلف يعتبر يمينًا شرعًا وهي يمين منعقدة، وإذا حنث السائل وتزوج بنت عمه المذكورة فإنه تجب عليه كفارات متعددة بعدد مرات الحلف، وإذا قال: إنه أراد بالتكرار التأكيد ومجرد الإعادة يصدق ديانة وفيما بينه وبين الله تعالى، وتجب حينئذ بالحنث كفارة واحدة.
وكفارة اليمين هي المنصوص عليها في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89].
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والطعام ما أشبع البطن، والكسوة ما تستر البدن عرفًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
اترك تعليق