العقلُ قوة وغريزة اختَصَّ الله بها الإنسانَ. وفضَّلَه بها علي سائرِ مخلوقاته. العقلُ قوةى مُدرِكة تقومُ بوظائفَ كبري. من ربطِ الأسباب بمُسبَّباتها. وإدراكَ الغائِب من الشاهِد. والكلياتِ من الجزئيات. والبديهيَّاتِ من النظريات. والمصالحِ من المفاسد. والمنافعِ من المضار. والمُستحسَنِ من المُستقبَح. وإدراكِ المقاصدِ وحسنِ العواقب.
فمِنْ أفضل نِعَم الله علي عباده. نعْمةَ العقل. فلولا العقل لما عرَف الإنسان دينَ الإسلام والنبوة. والخيرَ والشر. والحقَّ والباطل. والمعروفَ والمنكر. قال -تعالي -:وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيري مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. فالله -تعالي- فضَّل بني آدم علي غيرِهم منَ الجمادات. والحيوانات. والنباتات بهذا العقْل.
قال -تعالي- مادحًا عبادَه أصحاب العقول السليمة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتي لِأُولِي الْأَلْبَابِ. قال ابن كثير: أي العقول التامة الزكية. التي تُدرك الأشياء بحقائقِها علي جلياتها. وليسوا كالصمِّ البكم الذين لا يعقلون. الذين قال الله فيهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةي فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
وقد ذمَّ الله -تعالي- أصحابَ العقول الغافلة عن دينه» فقال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.. فإذا فَقَدَ الإنسان العقلَ السليم الذي يقوده إلي الخير. ويُبعده عن الشر. فقد أصبح كالبهيمة التي تأكل وتشرب ولا تعقل شيئًا» بل إنها خيْرى منه.
والعقل: اسم يقع علي المعرفة بسلوك الصواب. والعلم باجتناب الخطأ. فإذا كان المرء في أول درجاته يسمَّي أديبًا. ثم أريبًا. ثم لبيبًا. ثم عاقلاً. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالي: حَتَّي إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً*أي: تناهي عقله. وكمل فهمُه وحلمه. ويقال: إنه لا يتغير غالبًا عما يكون عليه ابن الأربعين.
والناس يُحبون الرجل الذي جمع بين الصَّلاح ورجحان العقل. ونبيُّنا محمد بن عبدالله - صلي الله عليه وسلم - أرجحُ الناس عقلاً. ففي الجاهلية لَم يسجدْ لصنمي قط. مع كثْرتها وتعلُّق الناس بها» لعلمه أن هذه الأصنام جمادات لا تضرُّ ولا تنفع. وكانتْ قريش تُودع أموالها عنده. ويستشيرونه في أمورهم» لرُجحان عقله. وسداد رأيه. وكان يعتزلُ الناس. ويتعبَّد في غار حراء يسأل ربه الهداية.
ومحل العقل القلبُ. وهو صريح قولِ الله تعالي: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبى يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانى يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَي الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. قال الشيخ محمد الشنقيطي: ومن الخطأ قول الفلاسفة: إنَّ محل العقل الدماغ. وقد تبعهم في ذلك قليلى من المسلمين. وعامةُ علماء المسلمين أن محل العقل القلب. فمن ذلك قوله تعالي: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبى لَا يَفْقَهُونَ بِهَا. فعابهم الله بأنهم لا يفقهون. والفِقه -الذي هو الفهْم- لا يكون إلا بالعقل. فدلَّ علي أن محلَّ العقْل القلب. وقال تعالي: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.
ومما يلفِتُ النظرَ أن القرآنَ الكريم ربطَ ربطًا واضحًا بين الأذن وحاسَّةِ السمع. والعَينِ وحاسَّةِ البصَر. والرِّجلِ وقُدرة المشْي. واليدِ وقوةِ البطش. أمَّا العقلُ فلم يُربَط بشيء من ذلك» بل ورَدَ باسم وظيفتِه المُدرِكة. وليس باسمِه أو آلَتِه. وكأنَّ في هذا دلالةً وإشارةً إلي أن العقلَ يُمثِّلُ مجموعَ أدوات الإدراك من سمعي وبصري وفؤادي وقلبي وغيرها. فالعقلُ مُرتبطى بالإنسان كلِّه. ومُنتظمى لحواسِّه كلِّها. فهو ملَكةى وظيفيةى يرتبطُ وجودُها وعملُها بوجود أدواتها. وعلي قَدرِ حُسنِ توظيف الإنسان لهذه الأدوات يكون تعقُّلُه في الأمور. ونُضجُه في الإدراك. مما يتبيَّن معه ارتِباطُ العقلِ بالأحداث والتصرُّفات.
اترك تعليق