القرآن الكريم مليء بالأساليب البلاغية التي تأسر العقول بجمالها ودقتها، ومن بين هذه الأساليب البديعة أسلوب المشاكلة والمقابلة، حيث تُستخدم ألفاظ تُقابل أفعال البشر لتُبرز عدل الله وحكمته، مع التأكيد على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن أي نقص أو مشابهة للمخلوقات.
من أبرز هذه الأمثلة ما ورد في سورة قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، [الأنفال: 30]؟ هذه الآية الكريمة تحمل في طياتها معانٍ عميقة تدل على حكمة الله وعظمته، وتتجلى البلاغة القرآنية في تصوير كيف يُحبط الله كيد الظالمين بأسلوب يفوق مكرهم إحكامًا وعدلًا. فما هو المقصود بـ "مكر الله"؟ وما هي الحكمة من وراء هذا التعبير القرآني؟ وكيف ينسجم هذا التعبير مع التنزيه الإلهي؟
دار الإفتاء المصرية اجابت عن هذه التساؤلات في فتوى جاء فيها: "هذا الكلام مَسُوقٌ على سبيل المشاكلة والمقابلة كما يقول البلاغيون، وهو أسلوب لغوي بليغ جاء كثيرًا في القرآن الكريم، كقوله تعالى:﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67]، وقوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ﴾ [السجدة: 14]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق: 15، 16]".
فالله سبحانه وتعالى لا يوصف بالمكر ولا بالكيد ابتداءً، وهو سبحانه منزه عن النسيان: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]، وإنما المقصود من هذه الآيات وغيرها أن الجزاء من جنس العمل، وأن هؤلاء مهما بلغوا في مكرهم وكيدهم فهو لا يساوي شيئًا أمام عظمة الله وقدرته وقهره وانتقامه وتدبيره في هلاكهم وقمع شرهم وباطلهم، وكل ما أضافه الله تعالى لنفسه من صفاته وأفعاله فهو منزَّه عما يخطر بالبال من صفات المخلوقين وأفعالهم، وكل ما خطر ببالك فالله تعالى خلاف ذلك.
والعجز عن درك الإدراك إدراكُ... والبحث في كُنْهِ ذات الرب إشراكُ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
اترك تعليق