هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

" بيت الرمل" رواية الكاتب الكبير ممد جبريل (الجزء التاسع)
الروائي الكبير محمد جبريل
الروائي الكبير محمد جبريل

ملخص ما نشر
أحكم الداكر السيطرة على مساعديه، لا يقدمون على ما لم يأمرهم بفعله، ولا يذيعون ما يعتبره من الأسرار. يتدخل في اللحظة التي يتجاوزون فيها ما وضعه من حدود. حظر الاختلاط بمساعدي الفتوات الآخرين. عدا صلاة الجمعة في أبو العباس، فهم يبتعدون عن مجالسهم. إذا التقت الأعين في الطريق، فإنه يكتفي بالسلام العابر، إيماءة تحية، هزة رأس، رفع راحة اليد، تمتمة لا تقول شيئًا. ثم – تأكيدًا لسطوته - حظر دخول بحري على فتوات الأحياء الأخرى ومساعديهم.


 

عندما يواجه الداكر آراء مساعديه بالقوة، فهذا دليل ضعفه، هو مجرد فتوة لا يختلف عن الباقين.
- مؤلم ألا يقول المرء ما يشعر به.
وشاب صوته سخرية:
- ما معنى جلوس المعلم إلينا إن لم نقل ما نريد؟
وضرب الطاولة بقبضته:
- إنه يمنع حتى سكوتنا الرافض!
يعجز عن أن يستشف ما وراء ملامح وجوههم الساكنة. تشي النظرات - الموزعة بعيدًا - أن المستحيل في تبدل الأحوال. سطوة الداكر خطّاف في الصخر، فلا تجاوز الفلوكة موضعها.
تملأ البسمة وجهه، حتى لا يفطن أحد إلى ما يعانيه. يحرص أن يحتفظ بأفكاره، يكتمها، في داخله الكثير من المشاعر التي لا يفصح عنها: يسرقنا الوقت.. ننام ونصحو ونواجه الموت بلا سبب!. 
أنت تحيا في الموت. إذا أردت حياة حقيقية فإن الفعل هو ما يجب أن يصنعه, لا أحد سيمنحك ما تستحقه. عليك أن تنتزعه بنفسك، بذكائك، بقوتك.
يتمنى وقتًا لا يخشى فيه أحدًا، لا الفتوات ولا البوليس، ويضرب الجميع.
صوت في أعماقه يدفعه لأن يحاول الحركة، الفعل، تحزنه معاناة الوحدة والوحشة والخوف من الآتي. جزء كبير من عمره اختطفه الفتوات والزمن. 
هل يلحق ما تبقى؟
لو أنه يمتلك عصا سحرية يخضع بها الناس والأشياء، يشق طريقه متكئًا على نفسه، القوة والشومة والدهاء والحيلة واتقاء الغدر. تصفو له الحياة.
سرحت نظراته في آفاق جديدة، لم تطالعه من قبل. 
حين باح للشيخ زين عبد الحي بما في نفسه، قال الشيخ:
- نحن نعيش حياتنا ولا نمتلكها، هي التي تصنع - بإرادة الله - ظروفنا!
أردف بلهجة ناصحة:
- إن ضاقت الأمور عليك, فاعتصم بالتقية.
زوى السبعاوي ما بين حاجبيه: 
- ما التقية؟ 
وهو يربت كتفه:
- احتفظ بما يشغلك في نفسك.
وفي نبرة مواسية:
- ما لا يدرك كله لا يترك كله.
- أفضل أن أحصل على الرغيف بكامله وليس الفتات. القليل لا يرضيني.
لاح فى عيني الشيخ كدر: كيف يثنيه عما يدور برأسه؟
- ماذا تريد في حياتك؟
غلبه الارتباك والحيرة:
- أن أحقق ما أريده.
- ماذا تريد؟
غامت المرئيات أمامه. فقد الرغبة في مواصلة المناقشة، وفى سماع أي شيء. ظل صامتًا، وإن نطق في عينيه حزن واضح:
قال الشيخ:
- ضع لنفسك هدفًا يسهل تحقيقه، 
وربت كتفه فى ود:
- لا تنشغل بالهدف عن وسائل بلوغه.
ثم وهو يغالب تأثره:
- كما أرى فإن أحلامك أكبر مما يسهل عليك تحقيقه.
وزاد ضغطه على حبات المسبحة:
- أشفق أن يهجر الطائر عشه قبل أن يتعلم الطيران.
بلغت الهمسات أذن الداكر، يزين له السبعاوي أفعاله، يمتدحها، ثم يدينه في المجيرة وقعدات المقاهي.
دعاه الداكر إلى بيته.
لم تطل مغالبته الخوف. إذا لم يذهب بقدميه، فسيأمر بجرّه منهما.
بدا الداكر في غير السحنة التي ألف لقاءه بها. يصدر عن عينيه بريق حرك الخوف في داخله. أخذه الكلام، تدافعت الكلمات من فمه دون أن يلتقط أنفاسه، عن الفتوات والمساعدين والمجيرة والحب والطاعة والعراك والتضحية. أخفق فى إيجاد الكلمات التي ينبغي أن يقولها، أو أنها تكسرت على شفتيه، فلم يستطع نطقها.
قرأ الداكر في عينيه ما حاول أن يخفيه. علا صوته يرعشه الغضب:
- أنا لم أدعك لتظهر قدرتك على النفاق.
تركزت حواسه، ينتظر كلمة أو حركة. حدس أن الداكر سيصفعه، رفع ذراعيه - بتلقائية - يتقى الصفعة. هم بالكلام، فاحتبس صوته فى حلقه، لا يقوى على النطق. عرف أنه لا طائل من توسله. تسلل ماء ساخن بين فخذيه، جمدت نظرته، تدلى ذراعاه. تلعثمت الكلمات فى شفتيه، شعر أن قدميه جمدتا في الأرض، التصقتا بها، لا تكادان تحملانه، ولا يستطيع الحركة. 
أمر الداكر رجلين، أركعا السبعاوي على ركبتيه، دفعا رأسه إلى الوراء، فتحا فمه عن آخره. ضم الداكر وجه السبعاوي بين فخذيه، دس قضيبه في الفم المفتوح، وبال.
طرح المساعدان السبعاوي على الأرض. ثم أنهضاه. ركله الداكر أسفل بطنه، تأوه وهو يتكوم حول نفسه، ثم سقط فى موضعه.
رمقه الداكر بنظرة مشتعلة:
- نظف بقك من الكلام الخائب.
        اهتزت الشومة – يومًا - في يد الداكر  وهو يرفعها فى الهواء.
هل هو تقدم السن؟ أو اعتلال الصحة؟ أو الخوف من التوقعات؟
- ليست الشومة وحدها أداة الفتوة.
ودس تحت لسانه فصًا:
- لا قيمة للشومة في يد مرتعشة.
تقدم في السن، لكنه ليس في حاجة إلى أحد. اعتزم هجر الفتونة، وفرض الإتاوات، والدخول بالمعلوم في معارك الأحياء. 
- سأعتزل بإرادتي وليس بالعجز!
استهوته تجارة الممنوعات، ومسروقات السلطة العسكرية. يتسلل أعوانه إلى معسكرات مصطفى باشا وكوم الدكة ورأس التين، يتسلق أحدهم سيارة نقل عسكرية، يقذف ما فيها إلى الباقين، الذين يعدون خلف السيارة. أول سرقاته لما ركب سيارة نقل من أمام معسكر مصطفى باشا، قادها - خالية - في اتجاه الشاطبي. أشار إلى أتباعه الواقفين في انحناءة السلسلة. قفزوا داخل العربة، في سيرها المتباطئ نحو رأس التين.
روي أنه كان يقود عربة حنطور. ينتظر جنود الإنجليز، عند خروجهم من كازينوهات الكورنيش. يقلهم  إلى أماكن بعيدة. يستولي على ما يرتدون، ويختفي.
زادت جرأته، فباع ملابس العساكر الإنجليز وهم يرتدونها. يشك العسكرى مقلبًا، يضربه روسية، يعريه من ثيابه بالقوة. لم يحمل السلاح أبدًا لعلمه بخطورته.
الفتونة لا تعرف العيب. 
إذا قفز صبيانه داخل عربة الجيش الإنجليزي، فللحصول على ما يتيقن أنه حقه.
- عندما نسرق الإنجليز فإننا نجبرهم على اختصار وجودهم!
تسلل مساعدوه - ليلة - إلى معسكر رأس التين، فسرقوا صندوقًا هائلًا. أذهلتهم المفاجأة لما وجدوا بداخل الصندوق جثة. 
خطف مساعده توتو الرشيدي كرتونة معلبات من سيارة جيب انجليزية في شارع إسماعيل صبري. لمحه السائق، فجرى إلى الخلف. دخل وراءه - دون أن ينزع الحذاء - وسط المنتظرين صلاة الجمعة، خارج على تمراز. أقعده إلى جواره، وانطلق بالسيارة. وشي الرشيدي بمعلمه وبقية الأعوان. عادوا - فى اليوم الثالث - تسبقهم تأكيدات بحماية السلطة.
سكت فتوات الأحياء عن الشرط الذى حمله عبد الرحيم السبعاوي، أن تكون كلمته نافذة على الجميع، يلتزمون بما يقضى، من يأذن له بالحركة في شياخة، أو شياخات، لا يتركها، هي المكان الذى حدده السبعاوي، من واجب الفتوة ألا يخالفه.
قبض البوليس على الداكر في بار بشارع السبع بنات، شعشعت الخمر في رأسه، فتشاجر مع عساكر إنجليز قبل أن يغادر إلى الطريق. حضّه كل ما صادفه على العراك. عافر، وعصلج، أوعز مأمور قسم العطارين للمحتجزين، فاتهموه بسرقة أموالهم.
قال مصيلحي فتوة كرموز وهو يفرك يديه فى تأهب:
- أضربه، فتخلي سبيلي؟
وافق الضابط. وعده - إن حدث ما يأمله - أن يغلق ملفه في مديرية الأمن.
دوّخ الداكر الحكومة. مشاغباته ومعاركه، هم يومي لأقسام الإسكندرية. لعل فتوة - مثله - يذل أنفه.
دفع الاثنان داخل حجرة، أحكم رتاجها.
أذهلته المفاجأة عندما فتحت الحجرة. خرج الداكر. سعى إلى ركن القاعة، وجلس.
لما حان أجله، انتهت حياته بصورة لم يكن يتوقعها أحد، ولا توقعها هو نفسه. 
حدث له مرض ألزمه الفراش ما يزيد عن السنة. كتم – في البداية – ضيق تنفسه، وإن شكا من الأرق، وقلة النوم، واعتلال المزاج، والشعور بالوهن، والفتور، وبطء الحركة، وفقدان الشهية. ربما استعاد الزمن القديم، زمن الإمام زاهر العليمي وخليفته الفتوة جمعة مخلوف، وما تبعهما من حلقات سلسلة الفتوات. 
شعر أنه لم يعد كما كان. يغالب الإحساس بأنه لم يعش، ويواجه الخواء0 لا قيمة لشيء، ولم تعد له رغبة في أي شيء0 غاب عن إرادته ما عرف بامتلاكه من قدرة على السيطرة. نال منه المرض، فلا يستطيع الادعاء بما يعجز عن فعله. زاد شعوره بالوهن، أثر على سيره وحركاته، لكنه ليس في حاجة إلى أحد، هو – في تقديره لنفسه – يحيط علمًا بكل شيء، ويمتلك الإجابة عن كل الأسئلة. وإن خشى الإصابة بالشلل، أو بزوال قدرة الذهن. وكان يهمس بالقول: 
- أتمنى أن أعيش سيرًا على قدميً، وأموت واقفًا!
فطن عبد الرحيم السبعاوي إلى مرضه لما عاوده السعال، انسداد فتحتي أنفه دفعه إلى التقاط أنفاسه بفمه المفتوح. وضع ورقة جريدة بين الفانلة الداخلية والقميص، ليقضى على السعال الذى يمزق صدره. لحقه سرساب، وتشوشت ذاكرته، فقدت عيناه الكثير من لمعانهما، ولم يعد يتعرف إلى زواره. عجز حتى عن القيام بإيماءات الصلاة، بتحريك الشفتين والأصابع. تمتم بآيات سورة الكرسى، وما جرى على لسانه من آيات المعوذتين، ليطرد الجان والأرواح الشريرة. صوّت أهل بيته في وجهه وهو ينتزع أنفاسه الأخيرة. تحشرج صوته بكلمات غامضة، تداخلها أسماء يعرفها، ولا يعرفها: المرسي أبو العباس، ياقوت العرش، زاهر العليمي، زين عبد الحي، حميدو فارس، أبو خطوة، السبعاوي، السكران، سلطان المرسي.. 
التفت الحضور في اتجاه النداء الذي رافق هتافه: 
- هل طال انتظارك؟ 
ربت صدره، وكرر القول – بنطق متلعثم – :
- أهلًا وسهلًا. 
ثم غاب عن الدنيا.
شك طبيب الصحة في جنائية الوفاة. طالت وقفة عبد الرحيم السبعاوي أمام مشرحة الإسعاف، رائحة الفورمالين تغالب روائح أشجار الحديقة. وارب الممرض الباب ليتيح له رؤية الجثمان المسجى على الطاولة الرخامية. 
ظل السبعاوي إلى جانبه، حتى شارك المشيعين حمله إلى مقابر الورديان.
مع أن السبعاوي لم يكن أفصح عن نياته، فقد اعتبر نفسه هو المقصود بقول الشيخ محسن قاعود:
- من كنا نأمل طول حياتهم ماتوا، ومن كنا نتوقع موته ظل حيًا. البقاء لله.
وقال السبعاوي لمرعي بيبي:
- أعرف أن الجمل يثأر لما قد يلحقه من إساءة، حتى لو طال الزمن.
علت وجه مرعي بيبي دهشة متسائلة:
- ماذا تقصد؟
قال من بين أسنانه:
- أقصد ما قلت.
روى محفوظ سمك عن حديث هامس في قهوة فاروق بين شيخ الصيادين محسب الدردير واليوزباشي أحمد قاسم معاون مباحث قسم الجمرك، تردد فيه اسم سعدية، وأن مرض الزهري أصاب واحدة من نساء بيتها. امتدت التوقعات، وتشابكت، ثم فاجأ عبد الرحيم الجميع بزواجه من سعدية. ذاعت الهمسات المتسائلة عن قبول الشيخ زين عبد الحي عقد زواجهما.
سبق عبد الرحيم السبعاوي إلى طلب زواجها سلطان المرسي، فتوة كوم الشقافة. من سواقط القيد. اختار لنفسه اسم" سلطان"، وصله بلقب " المرسي".
قالت في لهجة متصعبة:
- إذا قبلت زواجك فسأظلم زوجتك، وستأتى - فيما بعد - من تظلمنى!
أهمل نصيحة سلامة العتر فتوة باكوس:
- لو أن حورية البحر اجتذبتك إلى الأعماق، فإن حياتك هي الثمن.
تأمل الكلمات. فطن إلى النصيحة المحذرة، لكنه اعتزم تجاهلها، تناسيها، وإن أملى المصارحة بما يتوقعه، خوفه من رد الفعل: 
- زواجنا نوة قد نكون أول المتضررين منها. 
لكن الأيام توالت دون أن ترفع شومة بالرفض، فتسرب الشعور بالطمأنينة.
قال في انفعال لم يتدبره: 
- أثق أننا سنحقق معًا ما لم يستطع كل منا أن يحققه.
روي أن سعدية ساعدت عبد الرحيم بمعارفها. لجأت إلى موظفين في حي الرمل لا تخيب عندهم وساطتها. خلت المحاضر من حادثة ضده، أو ضد أعوانه. هجر التوقع أن ينقض من ينزعون استقراره، المخبرون وعساكر البوليس، أو مساعدو الفتوات. تكاثر أعوانه مدفوعين بإحساس الطمأنينة، غابت النظرات التي تراه غير جدير بها، انطوت أحياء المدينة في إرادته، فرض سيطرته على الميادين والشوارع والحواري والمقاهي والدكاكين. أتباعه يرصدون له تحركات الفتوات الآخرين ووجهاء الحي. حتى حفلات عقد القران والحنة والزفاف يعرف مواعيدها بالساعة.
أغرى الكثير من مساعدي الفتوات، فعملوا تحت سطوته، واجهوا المعارك، أو فروا من مواجهتها، بانفضاض الأتباع، المساعدين، الذين يتلقون الضربات. جعل لأتباعه امتيازات لم يحصلوا عليها من فتوات سبقوه.
هذه هي فرصته للسيادة على أحياء الإسكندرية، امتلاكها. يتحول فتواتها إلى مساعدين يخضعون لأوامره.
امتدت سيطرته داخل البيوت. صبيانه يطرقون الأبواب - في الليل والنهار - يبلغون السكان بما يطلب. من يرفض، أو يتأخر عن التنفيذ، يفاجئه قذف حجر في زجاج نافذته، أو وهو يتلمس طريقه – ليلًا - في مدخل البيت، أو حريق داخل الشقة غاب مصدره. 
هو يملك الشوارع، من صلاة العشاء إلى ما بعد الفجر، يعتز بأنه يملك بحري في كل الأوقات. أعوانه المبثوثون يفرضون سطوته على البيوت والدكاكين ورواد المقاهي. حذر أتباعه من التردد على مجيرة عم سعد، معاشرة أتباع الفتوات الآخرين.
تناوبته الأسئلة: لماذا يساويه فتوة آخر فى المكانة؟ لماذا سيطرة الفتوة على حي لا تجاوزه؟ لماذا لا تتسع فتشمل حيًا ملاصقًا، أو أحياء أخرى؟ هل يستحق من يحملون الشوم فيها صفة الفتونة؟ 
شيء ما تغيّر في حياته، غيّر حياته، لا يعرف ملامحه على وجه التحديد، لكنه ينعكس في الرهبة التي تكسو وجوه مساعديه، كذلك مساعدي الفتوات، يصغون إلى كلماته، ينطقون، أو يومئون بالموافقة، يغيب إلحاح الأسئلة والملاحظات. توزع مساعدوه ما بين المكس غربًا، والمنتزه شرقًا.
جعل لكل فعل ثمنه: فض المشاجرات، إعادة المختطفين، رد الممتلكات، الإتاوة، الطرد من السكن، الحماية من السرقة، ضرب الخصوم. من يدفع يحصل على ما يطلبه، لا شأن له بقوي أو ضعيف.
تولد في داخله إحساس كالانتشاء. تحرر من هموم كثيرة: سطوة المعلمين، التلفت، مطاردة البوليس، الشخط والنتر والشتم والأوامر والضربات والخضوع، ذلك كله يركن إلى الماضي، يصبح ماضيًا، يحل - بدلًا منه- عهد جديد، يدين فيه من حوله، وما حوله، لسيطرته. يمتلك من القوة ما يواجه به التحدي. لا تعنيه المكانة، ولا الجرأة على الاقتحام، ولا ذيوع الصيت بين المعلمين. تناثر الفتوات بين أحياء المدينة لا يرضيه، تبلورت أمنياته في أمنية واحدة: أن يخضع فتوات المدينة لشومته. هو أحق الجميع بالسيطرة والكلمة النافذة. يدين له كل الشريط المستطيل ما بين المكس غربًا، والمنتزه شرقًا.
رفض الفتونة وفق تقسيم الإسكندرية إلى أحياء، لكل حى فتوته. زاد الفتوات، فتوات أحياء الإسكندرية المحدودين صاروا بلا عدد، حتى الشوارع الفرعية والحارات والأزقة، لكل منها فتوة يعلن تحديه. 
أخضع لمشيئته فتوات الأحياء، ومن تحت سطوتهم من المساعدين ومرشدي البوليس والعائشين في الخوف. دان له الفتوات بالطاعة، كما دان لإرادته تجار الإسكندرية، دون اختيار ولا إجبار. ترامت الآفاق أمامه بلا نهاية، لا شيء يوقفه عن مقصده،
أمر ألا يخرج أحد الفتوات في موكب ما، دون أن يعرض عليه أسماء الشوارع التي يخترقها، وحظر إطلاق الرصاص في الجلوات.
لمتدت سطوته إلى كل أحياء الإسكندرية، ثم إلى مدن وقرى قريبة.
تابع - بالتذكر - أيام الداكر. العين التي تحسن الالتقاط، والأذن المنتبهة، والقدرة على درء الخطر. تناثر مساعدوه في المساجد والمقاهي والحدائق والخلاء ونواصي الشوارع والحارات وعلى الكورنيش وفوق الأسطح، لا يفلتون نذر النوات في النسائم الهادئة، يلتقطون الهمسة والنأمة، تأخذهم الظنة والشبهة والإشارة ذات المعنى.
هتاف طلحة أبو سكر بائع البطارخ بكوم الشقافة - عقب صلاة الجمعة في جامع العمري -: أدعو الله أن يعجّل الفرج، آخر وجود الرجل في الحي، ظل دكانه مغلقًا بلا لافتة على الباب تنبئ بسبب غيابه. 
خفتت أصوات الفتوات، وإن أوصى السبعاوي مساعديه بتجنب الخصومة ما أمكن. لم تعد الإتاوات مقصورة على الإسكندرية. تقاضي إتاوات في إدكو ورشيد وعزبة خورشيد وكفر الدوار ودربالة وسحالي وغيرها من المدن القريبة، وأتاه توتو الرشيدي بحمولة - هدية - من دمنهور.
زاد، فأمر فرق الصوفية - عندما تخرج في الموالد - أن تمر على مقام سيدي الواسطي - رغم ضيق الشارع - وليّه الذي يؤمن ببركاته. يستضيفهم بأكواب الماء المثلج والقرفة والشاي.
قيل إنه عقد صفقات لشراء مخلفات المعسكرات البريطانية، قبل جلائها عن المدينة.
أعاد رواية زيارته لقصر رأس التين
- من الواجب أن أهنئ جلالة الملك بعيد الاستقلال.
قال المعلم الزردوني: 
- هل رأيت الملك؟
فطن إلى خبث السؤال:
- كل الزوار وقعوا في سجل التشريفات.
ذهب في رحلة عمل إلى ليبيا، يشتري ثيابًا من سوق العقادين، يبيعها في أسواق ليبيا، أقمشة صوفية مطرزة بخيوط حريرية ملونة، وصديريات وسراويل وأغطية رأس. عاد فروى مشاهداته: العلمين، طائرات الألمان، حقول الألغام، الديناميت، القتلى، المقابر التي بلا حصر، روميل ثعلب الصحراء ( وبخ مساعده فصادة الأشموني لانضمامه إلى مظاهرة هتفت: إلى الأمام يا روميل!. رزقنا من الإنجليز، كيف نهتف لعدوهم؟! )، وتشرشل ( فاجأ أتباعه بإشارة إصبعي تشرشل تحفيزًا للنصر ) وجنود الحلفاء، البريطانيون والاستراليون والنيوزيلنديون والأقارقة والهنود. يستعيد الأماكن التي زارها - قبل أن تأكلها الحرب - السلوم وجغبوب وطرابلس ورأس الحكمة وسيدي براني وبنغازي وطبرق.
افترت شفتا المعلم الزردوني عن ابتسامة مداعبة:
- هل تنشئ فرعًا لفتونتك في ليبيا؟
قال السبعاوي: 
- في أي بلد. قنبلة أمريكا الذرية على اليابان أنهت الحرب في العالم كله. 
قال المعلم الزردوني:
- لماذا لم تسقط على برلين؟ 
- انتحر هتلر فلم يعد أمام ألمانيا إلّا الاستسلام.
قرأ في وجه سعدية كلامًا كثيرًا، ومعان لم تسم ملامحها من قبل. لمح فى عينيها شيئًا ما أقلقه، شيئًا خطيرًا يشغل بالها.
هل تحمل خبراً سيئاً؟
فتحت باب الغرفة على صراخ امرأة في الداخل. تكلمت – من بين دموعها – عن إصراره على عناقها من الخلف.
قالت سعدية:
- هو هنا لترضيه لا ليرضيك!
وزجرتها بنظرة مؤنبة:
- نفذي مطلبه أو اتركي البيت.
أغمض الشاب عينيه، تظاهر بسماع كلماتها المرغبة عن نسوة البيت. استهوته حركاتها العفوية، ضحكتها ذات الذيل، نبرة صوتها، الراء التي تتحول - في نطقها - إلى غين.
فتح عينيه، وقال في نبرة هامسة: 
- أريدك أنت!
أدارت رأسها لصوته الهامس، ونظرت إليه. ضايقها تحديق نظراته وهو يتلمظ بشفتيه. بدا لها الوجه مألوفًا، وإن لم تره في زيارات الطلبة.
- يا نبيهة!
غاظها أنه تكلم بنبرة حيادية، كأنه لا يقصد شيئًا يؤلمها. رافق نداؤها على الخادمة إدارة ظهرها للشاب، والتوجه إلى الباب.
عودت نفسها، والمترددين على الشقة، ألّا تأخذ وتعطي، ولا تحاسب، أو تتقاضى نقودًا. لا شأن بها بما يقتصر عمله على الخادمة. استجابت نبيهة لإشارتها بالبقاء في الحجرة. اتجهت إليه بنظرة محدقة، تتحقق مما يضمره.
خمّن أن نبيهة هي المرأة التي تنتظره. استرق النظر بعينين متفحصتين: في حوالي الثامنة عشرة، الوجه مستدير، البشرة قمحية، العينان عسليتان، الشعر الأسود مسدل على الكتفين، كلف الشمس يغطى ما تحت العينين، الشفتان نحيلتان، تناثر فوق الفم زغب ناعم. ترتدي فستانًا أسود، طرزت حواشيه بالدانتيلا البيضاء. أصابع قدميها الصغيرتين تبرز من مقدمة الصندل الجلدى.
لماذا لا تكون هي سيدة البيت؟
أعاد القول بصوت فسّرت سعدية خشونته بمغالبة صغر سنه:
- أريدك أنت!
بدا نهداها من وراء البلوزة كحلم جميل، ينزع ثيابها، وتنزع ثيابه، يطل النهدان كتفاحتين تضجان بالحياة، تلف ذراعيها حول عنقه، وتجذبه فوقها، تحيط بساقيها ظهره. تلبسته رغبة أن يشق بطنها كما يشق بطن السمكة. 
أومأت لنبيهة بعينها، فظلت واقفة.
اتجهت إليه بنظرة محدقة، تتحقق مما يريده. في حوالي العشرين لعينيه نظرة حادة، كسا وجهه البيضوي نمش خفيف. حليق شعر الرأس، وإن ترك ضفيرة متدلية من مؤخرة رأسه. يرتدي فانلة قطنية لها فتحة عنق دائرية. 
أعاد القول:
- أريدك أنت!
رفعت كتفيها ومطت بوزها، دلالة عدم الفهم :
- أنا في عمر أمك!
ابتسمت لملاحظة أم كامل بائعة الصحف في محطة الترام: ألا تشتاقين لطفل في حضنك؟
أردفت القول:
- كل شيء قسمة ونصيب.
اصطنع الشاب ابتسامة:
- لكنك أجمل من كل النساء.
وفي لهجة ملهوفة:
- أريدك الآن.
أدركت ما يجول في خاطره:
- أنت تريدني، وأنا أرفضك. كيف يلتقي الزيت والماء؟!
ووشى صوتها بالضيق:
– نسوة البيت لمن يدفع. 
مال عليها، تراجعت برأسها وهي تضع راحتها أمام وجهه.
في لهجته الملهوفة:
- أريدك الآن.
- في كوم بكير نساء كثيرات.. قد تجد من تستهويك!
جاهد لتظل نبرات صوته على هدوئها:
- لم يترك عساكر الإنجليز في كوم بكير امرأة بها رمق!
رمقها السبعاوي بنظرة متشككة كمن لا يصدق ما سمعه. قال في لهجة متأثرة:
- كان يجب طرده!
قالت:
- هل أنتظر؟!
ثم وهو تومئ بعينيها ناحية النافذة:
- طردته!
حدس أن الشاب من خارج الإسكندرية. للمدينة فتواتها، وهو الفتوة الأقوى، وتردده على الشقة لأنه زوج سيدتها. قصرت كلامها على ما قاله الشاب. لم تشر إن كان من المترددين على بيتها. هل اعتادت زياراته؟
اختارت له، لهما، حجرة على يمين المدخل،. تفضي الطرقة المستطيلة إلى أربع حجرات، في المواجهة، وعلى الجانبين، يفصل بينهما ما عرف أنه المنافع، أي المطبخ والحمام. ورائحة البحر تترامى من خلال البنايات العالية.
لا يذكر أنه اعتاد تمعن ما يراه، يعبر المرئيات، لا تستوقفه، ما فعلته في الحجرة أملى عليه التفحص، والمعاودة، لاحظ التفاصيل التي غابت عنه في أماكن أخرى.
أعدت الحجرة بما يصلح لحياة كاملة، مستقلة: السرير النحاسي فى المنتصف تمامًا، تحيط بأعمدته ستائر من الحرير الوردي، عليها نقوش وورود ملونة. البوفيه – قبالة السرير – تناثرت فوقه تكوينات صغيرة من الخزف الملون. الدولاب إلى اليمين، إلى جانبه كنبة من القطيفة بلون الورد، أمامها طاولة رخامية مستطيلة، يتوسطها مفرش بلاستيك صغير، فوقه صينية عليها إبريق شاى، وإبريق حليب، وسكرية، وحامل لمصفاة الشاى، وطبق صغير به ملقاط معدنى للسكر. فى الركن أباجورة لها غطاء في هيئة شمسية، مطفأة. تدلت من السقف شكمجية من خشب الصندل، والإضاءة غير المباشرة تنبعث من وراء الإفريز الذى يحيط بأعلى السقف.
صورته على حائط الغرفة علقتها إلى جانب صور - أقل حجمًا - اختارها، لمعلمين سابقين. فرشت على الأرض سجادة عليها أشكال وتكوينات. الستائر الحريرية البيضاء تسمح لضوء الشمس بالانتشار فى الغرفة، وإن كسرت حدته. دورة المياه خارج الحجرة، مشتركة بينها وبين الحجرات الأخرى.
ارتدت قفطانًا عنابيًا ضمت إلى خصرها بحزام من الساتان المزدان بخيوط مذهبة. تربعت على الكنبة، راحت تدلك - بتلقائية - كعب قدمها.
وهو يلون صوته:
- أحب الحمرة في شفتيك، أكرهها في عينيك.
جلستها الساكنة أتاحت له التثبت من ملامحها، التمعن في ما لم يره. تزوجا، احتوتهما الأمكنة، تبادلا الكلام، تعانقا، قرأ كل منهما - في النظرات المتبادلة - ما بنفس الآخر، ثرثر بمتاعبه وما يعانيه، اتفقا، اختلفا، هذه أول مرة يتحقق من لون عينيها. لم يكن قد فطن - لغلبة التوتر في لقاءاتهما - إلى العينين العسليتين، الواسعتين، الأنف الدقيق، الشفتين الرقيقتين، الصوت الناعم، اليدين المعبرتين بالميل إلى أسفل. 
فطنت إلى الارتباك في صوته.
لم يكلمها عن استمرار حياته في بيت النبي دانيال، ولا عرضت عليه أن يقيم في بيت كامب شيزار، لكن كان ذلك كذلك.
بالإضافة إلى ليلة أو ليلتين كل أسبوع، فقد قصر زيارته للشقة على أوقات النهار، يتناول الطعام في مواعيده، أو يستلقي في قيلولة، أو يبدّل ملابسه.
كان سرها أوضح من أن يخفى عليه. آثر التغاضي والصمت حتى لا يتيح لها كشف ما تحرص على إخفائه.
لما عرضت عليه أن يقيم بالشقة، ناوشه الشك في أنها خلطت بين إدارة الشقة، وطلب مشاركته. فكر في أن يلتقط طرف خيط، يكرّه ليعرف ما حدث. لكن الخيوط اختلطت، وتشابكت. أبلغه مساعدوه بأفعال تحرص المرأة على إخفائها. خشى أن تنزلق قدماه في طريق لم يدر في باله. 
هل زواجهما واجهة تداري ما غاب عنه تصوره؟ 
حياته كلها متعلقة باكتشاف البيت، سعدية زوجته، ولأنه يتردد على البيت، فهو يعلم ما تفعل. كتم الهواجس حتى لا يثير ضيقها، أو غضبها. يرى كل شيء، وإن تظاهر بأنه لا يرى ولا يسمع شيئًا.
ظل - منذ زواجهما - في بيت النبي دانيال. يتردد على بيت كامب شيزار. ربما أمضى ليلة، ثم يعود إلى النبي دانيال. تتحرك في عالمها الخاص. لم يحاول التدخل في حياتها. لا تستأذن، ولا يسألها، أو يبدي ملاحظة، يحاذر فلا يتبعها إلى ما تريد. في باله تقبّل الأمر كما هو عليه، يعد بتلبية كل مطالبها، لا يشغله إن استطاع ذلك بالفعل، لكن التماهي مما لا يستطيع تصوره. لا يتصور أن تقوده امرأة إلى ما يرفض قبوله. ما من قوة تملك إثناءه عما اعتزمه. الطريق واضحة، وهو يعرف ما يريده.
هل تزوجته لأنها تحبه، أو ليحميها؟
علت شفتيه ابتسامة غامضة، لم تستطع تفسيرها. حرص ألّا يعلمها بشرائه بيت الحاج نعمان القاضي، اعتزم تحويله وكالة للتصدير والاستيراد. تناقص عدد المترددين على البيت، فكاد ينعدم. تعددت الروايات عن خلوة الحاج نعمان في بيته بلوران، شغلته عن بيت بحري، وعن الدنيا وما فيها. استغني الحاج عن الأتباع والأعوان والخدم، تركوا البيت بعد أن منح كل منهم ما ييسر له حياة مقبولة.
لو أنها عرفت، ربما عرضت أن يخلى البيت، تنقل إليه نساءها.
فطن إلى أن الحب لم يكن شعوره ناحيتها. خلا ذهنه من امرأة تشاركه حياته، المرأة في حياته عابرة. ثمّن زواجه منها انتصار لمكانته بين الفتوات. 
حركت إيماءة التحفيز مغرب يوم أبدى فيه رأيه بالمقهى: 
- الزواج يعني الإنجاب. لا أريد أن أظلم الخلفة!
الهدف من كل ما عاناه ليس ضبابيًا، ولا خاليًا من المعنى. إنه الفتونة، الفتونة بالتحديد، لا شيء يساويها أو يقاربها. 
هل تحرمه المرأة من ثمار زرعه؟!
يتبع
 





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق