هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

" نساء بلا غد" مأساة ثلاث سوريات على مسرح الهناجر
مسرحية نساء بلا غد
مسرحية نساء بلا غد

منذ سبع سنوات قدمت المخرجة السورية نور نواف عرضها المسرحي" نساء بلا غد" المأخوذ عن نص للكاتب والمخرج العراقي الكبير جواد الأسدي، من إنتاج المعهد العالي للفنون المسرحية بمصر، وشاركت به في مهرجان" زكي طليمات" الذي يقيمه المعهد لطلابه سنويا.




حقق العرض نجاحا طيبا، أهله للمشاركة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وبعدها تم تقديمه على مسرح معهد غوته بالقاهرة.
هذه المرة، تقدم نور نواف عرضها، بشكل احترافي، من إنتاج مركز الهناجر للفنون (وزارة الثقافة المصرية) ونعني بالاحترافية هنا، ليس الرؤية الإخراجية، ولا الأداء التمثيلي، ولا غيرها من عناصر العرض، بل نعني أن هناك جهة إنتاج رسمية تفتح شباكا للتذاكر. الأمر الذي يجعل صناع العرض في تحد أمام أنفسهم وجمهورهم، بخاصة أن معيار نجاح العرض، هنا، يرتبط أكثر بمدى الإقبال الجماهيري على مشاهدته.
ولعل اهتمام مركز الهناجر للفنون بإنتاج العروض المهمة للشباب، والتي حققت نجاحا من قبل عند تقديمها عبر معاهد أو كليات متخصصة، أو جهات إنتاج خاصة وصغيرة، يعكس رؤية مديره، المخرج شادي سرور، التي ترمي إلى تبني وتقديم تجارب الشباب التي حققت نجاحا في عروضها الأولى، والدفع بها إلى مواجهة جمهور عام، وهو السلوك الذي أسست له هدى وصفي، أول مدير للمركز، والتي اهتمت كذلك بإقامة الورش التدريبية واستضافة مخرجين ومنظرين كبار من دول العالم، كان من بينهم بيتر بروك نفسه.
إضافات جديدة
الملاحظ أن نور نواف لم تركن إلى نجاحها الأول، وتقدم عرضها في نفس النسخة السابقة. صحيح أن الموضوع لم يتغير، ولا الرسالة تغيرت، لكن ثمة إضافات طرأت على العرض، سواء من حيث الديكور، أو الإضاءة، أو استخدام شاشة السينما، ما أضفى على العرض أبعادا جمالية جديدة مثلت إضافة نوعية إلى صورته الكلية.
وإذا كانت نسخة العرض الأولى قد انتهت بالتفاؤل، في شكل طفلة تظهر في نهاية المسرحية وتعلن نهاية الحرب والأوجاع، فإن مرور كل تلك السنوات، واستمرار الواقع السوري المقبض، على ما هو عليه، جعل المخرجة تقدم عرضها في صورة دائرية، بلا يقين، أو إجابة نهائية، فقد بدأ بوقوف السوريات الثلاث، اللاتي ذهبن إلى ألمانيا طلبا للجوء، أمام المحقق الألماني لشرح أسباب طلبهن، وانتهى بنفس الوقفة أمام المحقق، لا الحرب انتهت، ولا المحقق سمح لهن بالدخول، ليظل الأمر معلقا، من دون إبداء أي يقين عن نهاية بعينها. كان هناك ما يشبه السرير معلق أعلى المسرح، منذ البداية وحتى النهاية، لعله الحلم، أو لعله الوطن، الذي تتطلع إليه النساء الثلاث، فالسرير يعني الراحة والدفء، وهما ما لم يتحصلن عليهما.
تدخلت المخرجة، في النص الأصلي، عند صياغتها لنص العرض، إضافة وحذفا، بالتنسيق مع جواد الأسدي، لتحقق رؤيتها المتعلقة بنساء بلدها سوريا، وإن ألمحت، خلال العرض، إلى أن النساء السوريات لسن وحدهن في هذه المأساة، فهناك كذلك النساء في غزة، واليمن، والسودان، والعراق،    وليبيا وغيرها، كلهن هذه المرأة التي تدفع الثمن غاليا، نتيجة أخطاء وخطايا الساسة، وكذلك المجتمع نفسه.
لسنا ملائكة
لم تقدم نور نواف نساءها باعتبارهن ملائكة تتحرك على الأرض، فلدينا مريم (بسمة ماهر) تعاني ازدواجية رهيبة، فهي حريصة على أداء الصلوات، وقراءة القرآن الكريم، وهي، في الوقت نفسه، على علاقة غير شرعية بمهاجر بوسني. كانت قد تعرضت للاغتصاب في بلدها، تناوب عليها عشرة أشخاص تحت دعوى جهاد النكاح، في إشارة إلى "داعش" وجرائمه التي طالت النساء ضمن ما طالت.
نحن إذا أمام شخصية تم انتهاك جسدها، وسحق روحها، وإرباك تفكيرها، لتصل إلى هذه الحالة من الازدواجية، التي لم تعد معها تفرق بين ما يأمرها به دينها، وما تفعله مع المهاجر البوسني. تحولت إلى شخصية شائهة من دون إرادتها.
أما الأخرى، أدل (نهال الرملي) فهي تهوى السكر والعربدة، وتطمح إلى الارتباط بشخص ألماني، هي أشبه بالغانية، تجوب الحانات الليلية بحثا عن المتعة. شوهتها الحرب هي الأخرى، فقد أنجبت ابنة مصابة بثقب في القلب، وعندما بلغت الابنة السنوات الأربع أجريت لها جراحة لعلاج هذا الثقب، وتم شفاؤها، إلا أن واحدة من رصاصات الحرب، استقرت في نفس مكان الثقب لتموت الابنة، وتصل الأم إلى هذه الحالة من العدمية.
ربما جاءت فاطمة (لعبت دورها السورية لونا) التي كانت ممثلة معروفة قبل الحرب، أقرب إلى الشخصية الناضجة السوية، رغم فقدانها عملها ومكانتها، كانت رمانة الميزان في الصراع بين مريم وأدل، وكانت كذلك عنوانا لتاريخ بلدها وعراقته، من خلال استعراضها لأسماء علمائه ومفكريه، مخاطبة المحقق بأن هؤلاء هم من أشعلوا جذوة العلم والحضارة، قبل أن ينقلها الغرب عنهم وينسبها إلى نفسه.
ولأنها كانت تعمل ممثلة في الأصل، فقد أدت، ضمن السياق الدرامي للعرض وليس بعيدا منه، بعض المونولوغات من ملحمة جلجامش، تم اختيارها بعناية لتعكس الوضع الراهن، ليس في سوريا فحسب وإنما في المنطقة العربية كلها.
مأساة متكاملة
هكذا سارت أحداث العرض، ثلاث سيدات سوريات في معسكر للجوء على الحدود الألمانية، تم صياغته كمكان مقبض وبارد ومهمل، بلا أبواب أصلا، مجرد ستارة تحيط به، وبداخله ثلاثة أسرة للنوم، أو المفترض أنها أسرة، موزعة بشكل فوضوي (ديكور أحمد جمال) يقفن أمام المحقق، ومن خلال الوقفة نتعرف على سيرهن ومعاناتهن، على المستويين السياسي والاجتماعي، فالمأساة متكاملة ومتشعبة وتمس جوانب حياتهن كافة، وذلك عبر خطاب فني لا مجال فيه للصراخ أو المليودراما، سعيا لاستجداء تصفيق الجمهور.
مونولوغات عدة أدتها كل ممثلة، بحذق ومهارة، وقراءة معمقة لأزماتهن، والتي هي أزمات أغلب نساء العرب، في جانب منها أو آخر، فالإدانة لا تطال الساسة وحدهم، بل تطال أيضا المجتمع، سواء في تخاذله، أو في ازدواجيته وقهره للمرأة، حتى أنتج تلك النسخ المشوهة من دون إرادتها.
لا يملك المشاهد إلا أن يتعاطف مع شخصيات العرض، حتى في ابتذالها ومجونها أحيانا، بحسب نظرة مجتمعها لها، ذلك أنها شخصيات مدفوعة إلى مأساتها، ممزقة بين أحلامها وطموحاتها وسعيها للحرية والانعتاق من كل القيود التي تم تكبيلها بها، وبين واقعها السياسي والاجتماعي، الذي تنزل مطرقة خطاياه على رأسها تحديدا، لتكون هي أكثر من يدفع الثمن.
لقد جرى التعرف على تاريخ الشخصيات الثلاث عبر مشاهد آنية ومسترجعة، نفذتها المخرجة ببراعة، في انتقالاتها من هناك إلى هناك، عبر تقنية المونتاج السينمائي، وعبر إضاءة واعية لـ أبو بكر الشريف، أسهمت في تحقيق الرؤية الإخراجية، باستخدامها الألوان الباردة التي تعكس أجواء الغربة والبرودة والمعاناة، والألوان الساخنة في مشاهد الصراع والعنف، الذي تعرضت له كل منهن.
استخدمت المخرجة شاشة عرض في عدة مشاهد تدعم رؤيتها الفكرية والجمالية، أدى بعضها صوتا وصورة الفنان أيمن الشيوي، عميد المعهد العالي للفنون المسرحية، وكأنه يحي هذه التجربة وينتصر لها.
في عروض كهذه، أحيانا ما تأخذ صناعها الحماسة، فيغلب السياسي على الفني، ويصبح العرض بمثابة منشور سياسي أكثر منه عملا فنيا، وهو ما وعت إليه المخرجة، فرغم ما يغري به موضوع العرض، بالغ القسوة والعنف، من صخب وحدة، فقد جاء ناعما، وهادئا، ومتجنبا الصوت العالي، والإيقاع اللاهث، وإن كان الصخب والحدة والعنف تعتمل بداخله، لكنه الوعي بطبيعة الفن، الذي جعله يلامس المأساة بكل هذا الهدوء.





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق