هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

"بيت الرمـــــل" رواية للكاتب الكبير: محمد جبريل (الجزء السابع)
الروائي الكبير محمد جبريل
الروائي الكبير محمد جبريل

ملخص مانشر
تحدثت المعلومات عن دفع الداكر صبيانه إلى إغلاق الطريق إلى الشاطبي، لا يعبر من الحي، ولا يعبر إليه، إلًا بعد أن يدفع الإتاوة. فسر الداكر ما فعل بحماية أحياء الرمل من أذى البلطجية.
ضج الناس من قسوته، وقسوة أتباعه. كثر صراخهم واستغاثاتهم. تعددت حوادث السبى والسلب والنهب وهدم السرادقات والخيام والأكشاك والغرز، يضرمون فيها النيران، يطاردون المريدين والزوار بالعصي والسنج والجنازير.


 

تعددت زيارات الشيخ زين عبد الحي – مدفوعا بصعوبة الأحوال - إلى مديرية الأمن بشارع عبد المنعم.
- الفتوات يفرضون على الناس انتماءاتهم. أهل الحي يخضعون للفتوة، حتى لو لم تكن لهم به صلة.
وضغط بإصبعين على جانبى وجهه، وأغمض عينيه فى أسى:
- لم يستطع نابليون أن يخضع الأزهر.. هل يخضعنا هؤلاء الأجلاف؟
أضافت للنظرة المتسائلة في عيني القائمقام وصفي عبد الكافي:
- القهر يلغي ما عداه. الفتوات يحرمون الحركة والكلام والتنفس!
فكر في أن يصعد إلى مئذنة أبو العباس. هو ليس إمامًا للجامع، لكن المئذنة القصيرة لمسجد نصر الدين لا تتيح له تنفيذ ما اعتزمه: أن يدعو الناس - في هدأة الليل - بآخر صوته، إلى الخروج على الفتوات. ربما علا صوته بالنداء في جملة أو اثنتين، ثم يصعد صبية الفتوات إلى حيث يقف، يكتمون - بوسائلهم - صوته. لا يخشى الموت، فهو حق، لكنه يرفض أفعال البشر التي تزهق الروح بلا ثمن! 
- الرءوس تنحني للصلاة، لكن النفوس طافحة بالكراهية والعنف.
القائمقام وصفي مساعد الحكمدار، ومن خواص أصدقائه ومريديه. يعتذر - في تعدد لقاءاتهما - بعجزه عن كتم النزف، أودع الحبس عشرات الأتباع، لكن الفتوات لم تتبدل حياتهم. هو بلا سلطة يملى بها رأيه. عندما تهب النوة، فإنها لا تختار، يشمل خطرها كل من تلتقيه.
قال الشيخ زين وهو يحكم العمامة فوق رأسه: 
- إذا كنتم تملكون القوة فانتصروا للحق!
ارتعش أنف القائمقام، وإن ظلت ملامح وجهه ساكنة. التفت ناحية الأسماك الملونة في الحوض الزجاجي، جوار المكتب: 
- العادي أن الأسد يفترس الثعلب.. إن خدشه الثعلب فهي فضيحة! 
 وأغمض عينيه يدارى تأثره:
- من يدفع ثمن معارك الفتوات؟
 ومسد جبهته بأطراف أصابعه:
- إنهم يرتكبون الجرائم ويلقون نتائجها على صبيانهم، أو على من يشاؤون. 
ورفع كتفيه فى نفاد صبر:
- لماذا لا نلوم الناس على تخاذلهم؟
ثم وهو يبدي التململ:
- إن أجمعوا على الرفض فستكون نهاية الفتوات.
يصغي الناس إلى تحذيرات البوليس بألّا يعينوا الفتوات - بما يدفعون - على أفعالهم، لكن كل شيء يظل على حاله، إيثارًا للسلامة. 
فك الشيخ زين طرف عمامته، نفضها من رأسه، ثم أعاد لفها، وتسويتها:
- الناس مشغولون بأخطار الحرب وغلاء الأسعار. هل نضيف إلى متاعبهم جرائم الفتوات؟!
تناهى صوت الملازم أول مدحت هنو من وقفته على باب المكتب:
- أذهب مع الشيخ؟
حدجه عبد الكافى بنظرة مشفقة:
وجه مستدير، أبيض، مشرب بحمرة. عينان أميل إلى الاستدارة. كشف قميصه المفتوح ذو الكمين القصيرين عن صدر ذي شعر كثيف، وذراعين ممتلئتين. 
- لا تذهب بمفردك.
ارتدى مدحت هنو لباسَا مدنيًا، وأمر المخبرين أن يرتدوا ما لا يشى بعملهم. يطمئن الفتوة إليهم بالجيرة، لا يرفضهم بالوظيفة الميري.
كانت شمس الغروب تلامس المآذن والقباب والأسطح والطوابق العليا، وقلت أعداد العابرين لميدان الأئمة.
قال مدحت هنو لحنفي قابيل:
- استدعاك البكباشي أسامة دويدار مأمور قسم الجمرك. أقسمت أنك أقلعت عن العنف.
- فرق بين أن أكون متهمًا، وأن أكون مذنبًا.
في نبرة تشي بالغضب:
- أنت كذبت عليه.
أشاح حنفي قابيل بيده:
- حاسب المأمور على عبطه!
تلفت الضابط - بالحيرة – إلى العساكر من حوله، أخذهم التخاذل والحيرة، وغياب التوقع. 
- تشتم سيادة الضابط؟!
طرقع بلسانه:
- ضابط خطوته!
ودندن: 
يابو الشريط الأحمر يا مهندم     اسمح وزرنى يا أفندم
رفع مدحت هنو يده، اهتزت قبل أن تهوى على وجه حنفي قابيل. ارتخت ذراعه، وارتبكت وقفته، تلفت إلى الأعين المفتوحة، والأفواه الغائرة.
نظر إلى كفه، يستوضح الدافع، يراجع ما فعل، بدت الصفعة كأنها إشارة لاندفاع العساكر نحو حنفي قابيل، تحثهم على ما ينبغى فعله، حفزتهم وقفته يتحسس موضع الصفعة. سكنت الأصوات، لم يعد إلا ضربات الأيدى والأقدام.
تدافعت اللمة المحيطة، ومن أبواب البيوت والدكاكين والشوارع الجانبية، تعالى البكاء والصراخ واللطم والعويل والولولة، اكتفى بالفرجة من تواروا خلف النوافذ، ووقفوا فوق الأسطح، وأعلى الأشجار، ودرجات السلم الجانبى لجامع أبو العباس.
حفز تخاذل حنفي قابيل على توالى الضربات، لم تهدأ إلا بعد أن فارق الوعي.

نزع القائمقام وصفي عبد الكافي طربوشه، وضعه أمامه، ثم أطلق أف ف ف ف طويلة. 
تخلل البياض شعره الأسود. بشرة أميل إلى السمرة. وجه عريض بارز الفكين. حاجبان غليظان، قاطبان. يظللان عينين تشعان بريقًا، أنف بارز مستقيم، دائم التمسيد بإصبعه على شاربه. 
تزايد الفتوات، فاختلطت عليه أسماؤهم، ولم يعد يعرف الأحياء التي توزعوا فيها.
قال الشيخ زين عبد الحي:
- الناس يستغيثون بالفتوات ولا يلجؤون إلى البوليس!
قال القائمقام عبد الكافي:
- حلت خلافات الفتوات بديلًا لخلافات الأحزاب.
حدجه الشيخ زين بنظرة تستحثه على مواصلة الكلام.
- أخشى أن تتحول جماعات الفتوات إلى أحزاب سياسية.
حذر القائمقام وصفي من يحاولون تخطّي حدودهم أنهم سيعاقبون بما لا قبل لهم على احتماله. توزع الضباط والصولات والعساكر والمخبرون، يقتادون الفتوات وصبيانهم من البيوت والحارات والساحات الخالية والخرائب إلى العربات المغلقة، امتدت الحملات إلى المطاعم والمقاهي والكازينوهات في امتداد الكورنيش، والمحل الوحيد لبيع الأسلحة في ميدان محطة الإسكندرية.
- إنهم ليسوا مجهولين. القوائم بأسمائهم في كل أقسام البوليس.
تتجه العربات إلى مديرية الأمن بشارع عبد المنعم، ومنها إلى أقسام البوليس. يجيبون عن الأسئلة: الاسم بالكامل، بلد النشأة، الأسرة، المهنة. يطلقون سراح الصبي، أو يحيلونه إلى كعب داير.
قال عويس الداكر بلهجة متذللة:
- أنا أحاول العيش في نفسي. لا أعرف الحياة بشكل آخر.
قال البكباشي أسامة دويدار:
- نحن لا نلقى القبض إلا على من يرتكبون جرائم.
وبنبرة متوعدة:
- إذا تغلب المرض على مناعة الجسد فلا قيمة للأدوية.
أزمع أن يجعل عويس الداكر عبرة لبقية فتوات الإسكندرية. تلقى القائمقام وصفي عبد الكافي رسالة بتوقيع ناصح أمين. فطن إلى أن وراء كلماتها تحريض للبوليس على عويس الداكر. 
أمر أسامة دويدار، فجرده العساكر من ملابسه. عروه تمامًا. ضرب الصول رشدي أبو حطب مداراة الداكر عورته بيده. أومأ أسامة فنتف العساكر حاجبيه ولحيته، تبدّلت صورته فأنكرته الأعين. توالت صفعات أسامة على الخدين والعنق. حتى سكت عن الصراخ، كأنه فقد الإحساس بالألم. 
ذاعت الهمسات بأن محسن وزة فتوة كوم الدكة اغتصبه – بإيعاز من المأمور – في غرفة الحجز. شارك المحتجزون بالهتاف والتهليل.
أدرك الداكر أن الأتباع الذين يحيطون به يتلقون عنه ضربات الشوم، لكنهم لا يستطيعون درء خطر السلطة.
سار ربيع أبو العزم في شارع سور الجمرك، يرتفع إلى يمينه سور الدائرة الجمركية، عبر باب ستة، اخترق الشوارع الضيقة، المؤدية إلى ميدان المنشية. مدفوعًا بإلحاح الشيخ زين عبد الحي على المصالحة بينه وبين حنفي قابيل.
الشيخ زين هو الذي حدد المكان والموعد. مقهى الميدان، قبالة تمثال محمد علي، في الرابعة عصرًا، أمامهما بورصة الأوراق المالية، على اليمين شارع توفيق إلى العطارين، وعلى اليسار شارع شريف إلى محطة الإسكندرية، وثمة آيات قرآنية تتعالى من الفونوغراف داخل القهوة.
اقترح أبو العزم قهوة النجعاوي مكانًا للقاء. وسط الدكاكين والطرقات الضيقة، وبعيدة عن الأعين.
قال الشيخ زين:
- لهذا اخترت قهوة المنشية. من يخطئ يراه الناس.
بذل همّته واجتهاده في السعي لإزالة الغمة. معظم وقته فى حال الهدوء والصمت. لم ينتصر لفتوة، فيخسر ثقة بقية الفتوات، ويعجز عن أداء دوره في تصفية النفوس، وتذويب الخلافات. ينحسر ما تعانيه المدينة من حزازات وضغائن وعداوات. يفضل السير على الأرصفة، بدلًا من الشوارع الصاخبة بالشجارات والمعارك وأفعال الأذى. لا يأذن - خشية سوء الظن - بعلاقة صداقة، يبقى علاقاته فى حدود لا تجاوزها.
نقل إليه الشيخ موافي خادم مسجد نصر الدين قول ربيع أبو العزم:
- تخلت الحكومة عن الحياد في الحرب.. لكن الشيخ زين يحرص على حياده بين الفتوات.
عانى حزنًا لما آلت إليه الأحوال. عاب على الفتوات – بتكرار الخناقات - أنهم شغلوه بفض خناقاتهم عن واجب الإمامة، وعطلوا مصلحة الأهالى. المشاجرات هم يومي في حياة الناس، صيحة يتبعها رفع الشوم والمطاوي والبلط، وتطوح الكراسي. وتطاير الدماء.
- الله لا يهب عباده إلّا الخير. الشر فعل البشر.
احتمل من أفعال الفتوات ما يصعب احتماله، حتى يبعدوا أذاهم عن الناس. أفعالهم تبعد المصلين عن الوصول إلى المسجد.
أشاح بيده رفضًا للقول إن الخلاف بين قابيل وأبو العزم بلغ حدًا لم تعد تنجح معه مساعي التوفيق. أغفل نصيحة عبد المجيد ميلانى التاجر بالحجاري أن يبتعد عن سكة الفتوات، يحتفظ بهيبته، فلا يتجرأون عليه. التقاهم – لما علا ضجيج الخصام – فى قهوة مخيمخ بالسيالة، اتجه إلى القهوة وهو لا يعرف ما يجب عليه فعله. حرص أن تظل للجامع حرمته، لا يطأه من جعل الإيذاء حرفته.
- تعاقب الرسل والأولياء لنشر العدل والسلام بين البشر. أما تعاقب الفتوات فللأذى والخراب. 
وعقد ما بين حاجبيه مستغربًا:
- لماذا يدفع الغلابة ثمن معارككم؟!
لماذا معارك الأحياء؟ لماذا لا يلزم الفتوة حدود الحي الذي يتسيده؟ لماذا التطلع إلى ما يمتلكه الآخرون؟
حذر من أن تنقلهم أفعالهم إلى دنيا الجان، يخضعون لعقاب الحرام، أو يختطفون إلى حيث لا يعودون.
للشيخ عبد الحي مكانته في النفوس، يعلو الانبساط ملامح وجهه حين يلجأ إليه الناس يطلبون رأيه. يجتمعون إليه فى مسجد سيدي نصر الدين، يعظهم، يجيب عن أسئلتهم، يطعمهم، يسقيهم القهوة والشربات. اطمأنوا إلى حكمته، هو النصيحة والملجأ لما تواجههم به الأيام، ينصتون إلى عظاته، يعينهم – بكلماته – على تجاوز المشكلات، وشرح ما غمض من أمور الدين، تمسهم كهرباء الشيخ، تحتويهم نظرات عينيه النفاذة. ربما عصمتهم مكانته من أفعال الفتوات. شهر بطول الصلاة، وأداء الفرائض، فى موعد صلاة الجمعة يضيق الجامع والميدان أمامه بالمصلين، يزيدون من اتساع المكان بالسجاجيد الصغيرة، والحصير، وورق الصحف. نسب القول إلى الإمام الشافعي: الخشوع شرط صحة الصلاة.
هو خريج الأزهر، وكان والده عالمًا، له عمود في جامع الأزهر، يحرص أن تكون كلماته صحيحة لغويًا، ومخارج حروفه واضحة، لكنه يقصر لغة عظاته على العامية، يضمنها آيات من القرآن وحكمًا واستشهادات وحكايات تاريخية. يقاطع تلاوة القرآن بالقول: صدق الله العظيم. يعني بإحكام القراءة، يعيد قراءة الآية بلغة صحيحة، يراعي الوقف، والوصل، والمد، والغن. 
يرتدي قميصًا وسروالًا وصديريًا، فوقها الجبة الجوخ والقفطان، والحزام العريض حول الوسط. فى يده عطوس، وفى اليد الأخرى مسبحة تجرى عليها أصابعه. 
عني بأوجه البر والإنفاق والأوقاف والجرايات. تعددت – بنصائحه - نذور النساء، من أزمعت الصوم كل اثنين وخميس عند تحقق أمنيتها، من ادخرت لشراء عنزة تذبحها إن حدث المأمول. يشرف على الغسل والتكفين والصلاة على الميت.
لما اتهم الشربيني مصطفى خادم الجامع أتباع حنفي قابيل بسرقة صنوق النذور، قال الشيخ زين عبد الحي، دون أن يغادر هدوءه:
- هذا شأن ولي الله نصر الدين.
تكررت - في الأيام التالية - تهليلات التكبير في ميدان الأئمة لرؤية ثلاثة من أتباع حنفي قابيل نزعت الثياب عن أجسادهم يد لا ترى، فلا حيلة أمامهم إلّا الصراخ ومحاولة الاختفاء.
أعد ربيع نفسه لمشاجرة ربما أفقدته حياته. استبدل بالشومة عصاه الأبنوس. ترك الشومة في أيدي أتباعه، يلتقطها في أوقات العراك. أودع كفنه حناطة خادم مسجد الشوربجي، توضأ في ميضأة المسجد، ونزل درجاته إلى شارع الميدان، ومنه إلى ميدان المنشية. 
تأمل المكان بنظرة دائرية. لم يسبق له الجلوس في قهوة الميدان. كراسيها متناثرة على الرصيف، وفى الممر الضيق المفضي إلى سوق راتب. 
استعاد ما ينبغى عليه قوله، لكن القلق تصاعد داخله من أن حنفي قابيل ربما لا يأتى. 
تقتصر تحية كل منهما للآخر على إيماءة الرأس. وإن التقيا اقتصرت أحاديثهما على كلمات قصيرة، سريعة، ربما اكتفيا بالإيماءات وتعبيرات الأيدى.
لمح شابين جلسا فى زاوية المقهى, يتشابهان في السحنة والبنطلون والقميص المشجر. لم يستطع سماع ما يقولانه، وإن بدا اختلافهما في انفعال الملامح وتعبيرات الأيدي. انشغلا فى حديث هامس وهما ينظران ناحيته، خمن أنهما يتحدثان عنه. تأمل جيدًا، حدّق، ليظلا فى ذاكرته. أرهف أذنه. لم يكن الحوار بالعربية، ولا باللغات التى اعتاد سماعها فى شوارع المدينة. أدرك أنها لزوار قدموا من بلاد لا يعرفها.
التقت عيناه نظرة حنفي قابيل المتطلعة كأنه يبحث عنه.
السروال الأبيض الواسع، والصديرى ذو الأزرار الصغيرة المتجاورة. يضع على رأسه طاقية بيضاء، ذات حافة ذهبية مموجة. 
توقع كل منهما أن يبادر الآخر بالخطوة الأولى، تردد حنفي قابيل في القيام من كرسيه. لم يتدبر إن كان عليه المصافحة واقفًا، أو يكتفي بإيماءة تحية. تكلما بالصمت، يحدس كل منا ما يريد صاحبه أن يقوله، كأن كلًا منهما يخشى امتلاك الآخر ما يأخذه عليه، ما يدينه.
رنا حنفي قابيل - بعفوية - إلى ساعة بورصة الأوراق المالية، في نهاية الميدان. لم يدر فى باله أنهما - بعيدًا عن الخناقات -سيلتقيان يومًا، يجلسان على المقهى، يختفي العداء، يتبادلان الكلام، يأخذ كل منهما من الآخر ويعطي. 
- خشيت أن تظن الموعد في البار المجاور.
اهتز كوب الماء فى يده:
- أنا لا أعرف السهر، ولا أشرب الخمر، ولا أتعاطى المكيفات. لا تجدني إلّا في الجامع أو البيت.
استطرد دون أن ينظر ناحية قابيل:
- جئت من ناحية جامع الشيخ.
حدجه قابيل بنظرة متشككة. هل يقصد تذكيره بحادثة السبت الفائت؟
أنهى المشيعون صلاة الجنازة. تهيأوا لمواصلة السير إلى مقابر العامود. في انحناءة شارع الميدان إلى سوق راتب، اجتذبهم هتاف مختار البلقيني صاحب دكان البقالة أسفل بواكي الجامع المعلق: 
- أغيثوني من فتحي تعيلب صبي الفتوة حنفي قابيل. يأخذ بضاعتي بحجة توزيعها على مشيعي الجنازات.
الصفعة التي تلقاها البقال من فتحي تعيلب شرارة أشعلت النيران ضد حنفي قابيل. هاجمه زحام سوق راتب في جلسته المسترخية أول السوق. نسوا النعش في بسطة السلم، كالوا له اللكمات والركلات كأنهم يعاقبون قابيل في صبيه.
قال حنفي قابيل: 
- لماذا تقلب الأجندات الفائتة؟
ثم وهو يمسد ذقنه:
- لم يعد فتحي تعيلب من رجالي. 
وسرت في صوته نبرة متصعبة:
- أساء إلى حرمة الموت فطردته.
غمغم ربيع أبو العزم بكلمات مدغمة، ثم شرد ناحية الميدان. أعمدة النور والأشجار والجدران والأسوار والنوافذ.
أزاح الطربوش عن رأسه، كاشفًا عن شعر ملبد بالعرق، جرى بالمنديل المحلاوي حول وجهه، ثم أعاد الطربوش إلى موضعه.
قال حنفي قابيل:
- تبدو في صحة على غير ما رأيتك في آخر لقاءاتنا.
وهو يمسد صدره:
- الشكر لسيدي زاهر العليمي.
وأطلق تنهيدة عريضة:
- زارني في مرضي. صلى من أجلي فزال المرض بشفاعته وبإذن الله.
ثم وهو يحاول أن يجعل صوته مؤثرًا:
- عرفت أن العزلة هي أصعب ما يعانيه الإنسان.
أعاد الالتفات إلى شجرة في الرصيف المقابل، تسلقها - ذات عصر - ليهتف باسم الزعيم مصطفى النحاس. ردد الهتاف أتباعه في اندساسهم بين مستقبلي الزعيم. أعاد ورقة الجنيهات الخمسة معتذرًا:
- حبي للزعيم يفوق أموال الدنيا!
تنبه على قول حنفي قابيل:
- أريد أن أعرف: من يضايقك؟
رمقه بنظرة اتهام:
- أنت!
أشار حنفي قابيل بأصابع مضمومة إلى نفسه: 
- أنا؟!
قامة وافية. فرق شعره المدهون بالفازلين إلى نصفين. له بشرة نحاسية. ملامحه توحي بعمر أصغر من عمره، تؤكده عينان بنيتان، براقتان. سريعتا الحركة. يعتز بأنه لم يخلع ضرسًا فى حياته. جعل طرفي شاربه معقوفين إلى أعلى. يرتدي صديريًا أبيض قطنيًا، ذا أزرار كثيرة متجاورة، وسروالًا واسعًا، يتداخل في حذائه الأسود والأبيض. 
سمي كف الأسد لقوة راحة يده، يصفع بها خصمه فيفقده الوعي. تعروه نشوة وهو يقترب بسن الخنجر من وجه الرجل، ما يبين في الملامح من إمارات الخوف والفزع والتوسل. لا يبدى - في تظاهره بالإنصات - اهتمامًا، وإن أومأ برأسه دلالة المتابعة. ربما ضغط على كتفه بمعنى الفهم. لايجد فى نفسه دافعًا كى يبرر تصرفاته. يقصر رد التحية على كلمات الآخرين بكلمات مدغمة، أو يكتفى بهز الرأس. 
وهو يبدي التأثر:
- نحن مختلفان إن عجز أحدنا عن فهم صاحبه.. لكننا لسنا كذلك!
قال ربيع بلهجة مبطنة بالعداء:
- أنت دائم التغيير لجلدك. أما أنا فلا أستطيع إلّا أن أكون نفسي.
ثم وهو يضرب جبهته بباطن كفه:
- تتآمر في السر لعجزك عن المواجهة في العلن.
أشار حنفي قابيل بأصابع مضمومة إلى نفسه: 
- أنا؟!
ارتعش فنجان الشاي فى يده، أعاده إلى الترابيزة. 
قال أبو العزم:
- أنا لا أسيء إلى أحد. طبيعي أن أرفض إساءات الغير. 
- لا تخطئ في فهم موقفي.
وأخلت ابتسامته موضعها لارتعاشة الشفتين:
- لن أظل ساكتًا عن الغلط.
وقذف في جوفه ما تبقى في كوب الشاي:
- احذر الموج الساكن. قد يكون عميقًا.
- أنت تحرص على أذيتي.. أنا أبادلك الحرص نفسه.
– حتى لو امتلكت قوة عنترة لا أتصور أني أوذي ذبابة!.
والتقط بالماشة قطعة فحم، وضعها أعلى النارجيلة، وضغط عليها، غالب الفتور في صوته:
- نحن رفاق رحلة، كل منا ينزل في محطته!
وعض شفته السفلى، ثم استطرد:
- لا نملك لأنفسنا حياة ولا موتًا ولا نفعًا ولا ضرًا.
وأطلت من عينيه نظرة منهزمة:
- ما سيحدث لابد أن يحدث، لن يقوى الإنسان على صده.
وانحنى على النارجيلة، يقلب جمرات الفحم بالماشة، يتأكد من تأثيرها، يجذب الليّ بسرعة من مبسمه.
- أعجب لمن ينعون الهم بينما النسيان متاح في قبو الملاح!
بسط أبو العزم راحتيه في تأثر:
- حد الله بيني وبين الكيف!
– إذا كان مصيرنا إلى القبر فلماذا لا نستمتع بأيامنا في الدنيا؟!
 ولاح على وجهه طيف ابتسامة:
- الحياة وجدت لنحياها، لنستمتع بها.
وعض بأسنانه طرف شاربه:
- نحن نعيش مرة واحدة.
هز أبو العزم منكبيه بلا مبالاة:
 - حين يموت المرء، فإنه يموت.. هى إرادة الله.
وفي نبرة متهدجة:
- الموت حقيقة يجب تقبلها!
وأشاح بظهر يده:
- قد يكون الموت طريقنا إلى راحة نفتقدها!
حاول أن يواصل الكلام، لكن الحشرجة فى صوته خذلته، فسكت.
جاوز حنفي قابيل حصار النظرات المتبادلة، الفاترة، والكلمات المقتضبة:
- لا أقسى على الإنسان من الحياة وحيدًا.
وخفت صوته، فهو أقرب إلى الهمس:
- سامية خادمة الشيخ زين عبد الحي. أريدها زوجة.
أومأ ربيع بهزة رأس:
- اختيار الشيخ لا يخطئ!
استطرد، متحفزًا بإلإيماءة المرحبة:
- أملي - بالزواج - تكوين أسرة، عائلة، تنبت لي جذور، تطرح أغصانًا وأوراقًا، تنتسب إلي، فلا أعود وحيدًا.
عاود أبو العزم هز رأسه:
- أثق أنها ستجد فيك زوجًا طيبًا.
دخل زوجها السجن لجريمة ارتكبها زعيتر فتوة غربال أكثرت من زيارة مقام أبو العباس، تشكو الحال، وتتوسل لإطعام أطفالها الثلاثة. يهبها القطب العون والحماية وتمني الشفاعة من الذات الإلهية.
عرف الشيخ زين بحالها، فألحقها بخدمته، تنتقل بين مكتبه في الجامع، وبيته في شارع الفراهدة. تعين زوجته المريضة بالروماتويد تنظف الشقة، وترتبها، تعد الطعام، تغسل الملابس، تشتري احتياجات البيت من محل أدوات منزلية، صاحبه خواجة أرمني بشارع السبع بنات.
تعالت الأصوات من ناحية المقام، اختلاط الأدعية والابتهالات والنداءات والتسابيح وزغاريد النساء.
عاود الالتفات. 
لولا أنه يعرفها ما استطاع تمييزها بين الملتفات حول مقام السلطان. أمسكت بالمقصورة المعدنية. اتجهت إلى صاحب المقام بكلمات لم يتبينها، استغرقت في ما عزلها عن العالم من حولها.
أذهلته وقفتها المتوسلة أمام مقام أبو العباس. ربما تعمدت – لكسب رضا الولي – أن تكنس الأرضية بيدها. 
مال قابيل فى كرسيه إلى الوراء، وعقد أصابعه على صدره.
- ما أخبار الداكر؟
- لا أخبار عندي.
- أعرف أنه يكرهني.
وتنحنح ليزيل تسلل نبرة خوف إلى صوته:.
- لا أخشى الداكر. فتونته في صوته. البحر الحصيرة هو الذى يخيف.
ربيع أبو العزم فتوة بحري، الداكر فتوة الشاطبي. لم يحدد حنفى قابيل لنفسه منطقة بالذات. قدم من الصعيد إلى الإسكندرية في شبابه. اختياره كفر عشري لعزوته من الصعيد.
- الداكر لا يكرهك ولا يكره غيرك. الكره شعور لا يعرفه!
نفض رماد النارجيلة بنفخة من فمه:
- أعرف أنه يقضي الليل في المخبأ أكثر مما يلزم بيته.
وسرى في صوته ما يشبه التشفي:
- يحرص على إطاعة صفارة الإنذار! 
ونقر الطاولة بإصبعه:
- من حسن حظه أنه بلا غشاء بكارة. كان فض من زمن!
ثم وهو يمسح بيده على مقدمة رأسه الخالية من الشعر:
 - أعرف كثيرين عاشوا على بطولات من اختلاقهم. كرروا ترديدها حتى صدّقوها!
وبتر الكلمات التي أوشك أن يقولها.
ومضت عينا ربيع بنظرة ضيق. كيف يحتمل كل هذا الغل في نفسه؟
شعر أنه هو المقصود بالكلام، كأنه يقصد إغاظته. حدق في وجهه: ماذا يخفيه؟
- رجله خفت عن بارات اللبان. يكتفي بالطافيا في خمارة بصفر باشا.
مط قابيل شفتيه في استغراب:
- أعرف أنه يدوخ من كوب بيرة!
أومأ أبو العزم برأسه ناحية الميدان:
- تذكر أن هذه القهوة في حمى المعلم الكبير أبو خطوة.
استشف قابيل من الكلمات معنى مضمرًا:
- للرجل احترامه حتى لو لم يكن بيننا.
ثم وهو يرمقه في ريبة:
- ما شأن أبو خطوة بما نتكلم فيه؟
- نغمة التهديد.
- أنا لا أهدد، بل أوضح ما لزم توضيحه.
وتململ في كرسيه تأهبًا للقيام:
- سأخبرك بما قد لا تود سماعه.
ثم وهو يغالب التأثر:
- زمن الفتوات في طريقه إلى التلاشي.
ووشى تقلص عضلات وجهه بالمكابدة التى يعانيها:
- الناس يفرون من غارات هتلر. لن تجد من تفرض عليهم الفتونة!
وخالطت صوته حشرجة:
- مصير الفتوات يشابه أوراق الشجر المتساقطة في الميدان. إذا سقطت ورقة فمن المستحيل إعادتها.
فى الناصية، التفت ناحيته. لوح مودعًا.
ومال إلى شارع السبع بنات.
ما كاد عبد الرحيم السبعاوي يرقى الدرجات الثلاث المفضية إلى باب حمام الأنفوشي، حتى أوقفته صيحة عم شومان:
- اذهب إلى حمام آخر.
بحلق فى دهشة:
- لماذا؟
قدم إلى الحمام بنصيحة الشيخ المنجي عبد المطلب. فاجأه بالسؤال:
- ألا تستحم؟
قال لنظرة الاستياء في عيني الشيخ: 
- أين؟
الطريق بيته. يطوف الشوارع، يتنقل بين الأرصفة وأبواب المساجد والمطاعم والمقاهي والدكاكين. يجلس على مقاه يصادفها، يدخل المساجد في غير أوقات الصلاة، يقضي حاجته في الخلاء. يجتر القلق والألم والـغيظ. يدركه اليأس من الفتونة، أمنية لا تتحقق أبدًا. 
قال عم شومان:
- المعلم أبو العزم سيقضي اليوم في الحمام برفقة أصدقاء.
واتته جرأة لم يعهدها في نفسه:
- امتلك الحمام غصبًا. يمنع التردد عليه إلّا لنفسه وناسه.
قذفه عم شومان بنظرة مستنكرة:
- المعلم أبو العزم شيخ المتواضعين.
ومسح أنفه بظهر يده:
- لم يبدل مواعيد الحمام إلّا أقل من ساعة.
المصادفة يسرت قدوم المعلم ربيع إلى الحمام. ألف حجزه يومًا للرجال، وآخر للنساء. لم يخطر فى باله أن تتغير المواعيد.
قال له شيخ الصيادين محسب الدردير:
- الناس يثنون على تبرعك لإعادة الحمام إلى حالته.
وعاد بظهره إلى الوراء:
- الحمد لله تبدّل الحمام تمامًا، البارد والساخن وما يصح الجسم.
- أفكر في زيارته.
- ستجدني - بإذن الله - في انتظارك.
ومسح عم شومان أنفه بظهر يده:
- لم يبدل مواعيد الحمام إلّا أقل من ساعة.
أنفق على الحمام بما بدّل أحواله. 
يخلع المتردد على الحمام ثيابه عند الدخول، يتسلم – للاغتسال – ليفة وقطعة صابون، يفرك جسده، يزيل العرق وتأثيرات الرطوبة. يتجردون من الملابس، يقذف بها عم شومان في غرفة التبخير. يلحقه بصّرة فيها ثياب غير التي كان يلبسها، يغادر الحمام نظيفًا في كل شيء.
وضعت الحواجز الخشبية حتى يفصل بين من يحسنون استخدام الحمام، ومن يدخلونه للتخلص من أثر الزفارة والملح على أجسادهم وملابسهم، ثم يمضون إلى بيوتهم، داخل السيالة ورأس التين وأحياء أخرى.
المربعات الإسمنتية بلا أبواب، ولا فواصل علوية، أشبه بسواتر من الجانبين، لا تمنع الرؤية من الأمام، ولا من فوق. الأرضية من الرخام ليسهل تنظيفها. وصل بين المربعات ما شكل قاعة تضم الجزء المزود بأحواض المياه، أو الهواء الساخن، المار عبر أنابيب الفخار، تتصل ببيت الحرارة، مغطس المياه الساخنة في قلبها.
جعل في القسم الأكبر من الحمام خلاطات تمزج بين الماء البارد والماء الساخن، وفى جدرانها مرايا، والأرفف الرخامية فوقها الصابون والعطور والكريمات والمناشف. ترك للناس ثلاثة مربعات متلاصقة، تقف أمامها الطوابير، ربما ثار خلاف وخناقات للنفاذ من الزحام. 
استعاض عن المسلخ وبيت الحرارة في الحمام الشعبي، بتوصيل مواسير الماء الساخن في مربعات الحمام. الحمام الساخن حظ الناس كل صباح، لا يستبدلون به المياه الباردة أوقات الصيف. تسري السخونة في مربعات الحمام، تهب الدفء. تزيل التعب من الجسم، يستعيد العافية.
عدل عن فكرة بناء مستوقد داخل البناية، توضع في داخله قدور الفول، يسوى الفول من حرارة الحمام. الحمام لأهل الحي.
بعث صبيه محسب الدردير إلى الحمام، يخطر عم شومان، فينتظر قدومه، ذهب إلى الحمام فى الموعد الذي حدده، وجده معدًا لاستقباله، وإن أخفى شعوره بالضيق وهو يتفادى كومات الأحذية والبلغ والشباشب والقباقيب. 
وافق شيحة مساعد سلطان المرسي فتوة كوم الشقافة على طلب عبد الرحيم السبعاوي بالمساعدة. أغلق - لضبط حرارة المياه - أبواب الحمام ونوافذه تمامًا، أدار - في وصول المعلم ربيع - مفتاح الغاز.
أزمع السبعاوي أن يواجه أبو العزم – تحت مياه الدش – بما كتمه في نفسه، ما يستعصى على البوح. أعطى شيحة قطعة أفيون معتبرة. سرب الغاز من المواسير الواصلة بين الغرف المتجاورة. 
لم يكن قد نزع كل ملابسه، يا دوب ألقى الصديري على الشماعة، تبعه بالفانلة الداخلية. قبل أن يهم بإنزال السروال هزت الرعشة المفاجئة رأسه وأطرافه، سرى في جسده تنميل لم يعهده، تشابكت المرئيات، تداخلت، تاهت، دارت به الأرض، تقلصت الأشياء من حوله، ذوت، راحت في التلاشى. عجز عن تمييز المرئيات، لم يعد يعرف أين هو، ولا ماذا ينبغي أن يفعل. هل عجز عن الرؤية؟ لماذا لا تتحرك شفتاه باستغاثاته؟ هل عجز عن النطق؟، تزاحمت في ذهنه عشرات الرؤي، السحن والأمكنة اختلطت ملامحها، أثارت إحساسه بالعزلة والوحدة والخوف، مقام المرسي، زاهر العليمي، بنية الحمام، حنفي قابيل، لسان السلسلة، جمعة مخلوف، زين عبد الحي، المنجي عبد المطلب. يلوذ بالزحام فرارًا من الإحساس بالوحدة، يغوص في المياه الباردة بالمالح، يخترق - بنظرات موزعة - شارع  الميدان واختلاط الرؤى في أسواق راتب والجمعة وغربال وعداية وشيديا وسوق الخضر بالحضرة. يرقب الأفق في لسان السلسلة، تشكل أسراب الحمام غيمة تستره من  لهيب الشمس، الصواريخ الملونة تتعالى من ناحية التيرو، في انحناءة الشاطبي. يسقيه عم مكيوي بيده ماء الحنفية، يهتف بالدهشة للشبه بين الممثل الإيطالي فيتوريو دي سيكا وشيخ الصيادين عاشور حميدة، ترتفع يداه اتقاء ضربات الشوم التي لا يعرف مصدرها، تحيط به لمة الأولاد في مدى لا ينتهي، تتراقص الأطياف والأشباح، تترامى الأصوات مبهمة، مختلطة، يتشابك الأذان والتسابيح والأدعية، تخفت الأصوات، وتتضاءل، تظل فى تباعدها حتى التلاشي، السماء سوداء، لا قمر ولا نجوم، صياد يفرد طراحته على الموج الساكن، سعف النخيل يتمايل بشدة على امتداد الكورنيش، قوارب صغيرة تعود إلى مرساها في طرف المينا الشرقية. أغصان شجرة أم الشعور تلامس مياه الترعة، حمامة تتقافز في البنية، ثم تطير، خفاش يلتقط فراشة ويطير في السواد. ما يشبه الومضات تسري في حلكة الظلمة، يتكثف السواد، ومضات سريعة كأنها البرق، تذوي، تختفي، تتلاشى، يزيد الصمت من قسوته، تغيب الأصوات تمامًا، في نقطة بعيدة، تلتقي زرقة السماء بأفق البحر. السماء شديدة الزرقة، وصافية. لا تشوبها سحب، أو غيوم. صوت أدعية يترامى من موضع قريب. الخدر يتسلل إلى جسمه، يغلق عينيه، رغبة في النوم، مفاجئة، لا يقوى على مغالبتها. 
هل فقد الوعي؟
تجمدت الأفكار في رأسه، أو غابت عنها. امتصت اللحظة ما كان، وتصورات المستقبل. لم يعد يدرى شيئًا مما حوله، لا شيء إلّا التهيؤ للنوم، يخشاه، يغالبه. رأسه يتثاقل، وجفنيه يرتخيان. تحسست يداه ما صادفها: الجدران، الأرضية، النتوءات، الأشياء المعلقة. انفصل عن كل ما حوله، مد يده، يحاول الإمساك بما لا يراه، فلا يتعثر ويقع، لكن يده اصطدمت بالفراغ.
هل هو الموت؟
شك طبيب الصحة في جنائية الوفاة. طالت وقفة المئات من محبيه وأتباعه أمام مشرحة الإسعاف، رائحة الفورمالين تغالب روائح أشجار الحديقة. وارب الممرض الباب بما أتاح لهم رؤية الجثمان المسجى على الطاولة الرخامية. ظلوا إلى جانبه حتى أذن الطبيب، فحملوه إلى مقابر العامود.
تصريح الدفن الذي نقل به جثمان ربيع أبو العزم إلى المقابر، تشابك، واختلط، في روايات أخرى. رجح عطوة شتيوي البائع في شادر البطيخ، الملاصق للمحكمة الكلية، أن قدم ربيع انزلقت فوق صخرة ملساء، زلقة، أمام المحكمة، فتعثر، وسقط في البحر. غاب الغوث في حرارة الظهيرة، وغلبة الصمت، وخلو المكان. ذاعت رواية أنه مات فوق مومس من كوم بكير. وروي أن أنفاسه اختنقت بتأثير جرعة كيف زائدة، وقال شيخ الحارة محفوظ سمك إن أبو العزم مات أمامه، سجد للصلاة، فلم يزايل موضعه. أضاف محفوظ سمك قوله إن ربيع أبو العزم عانى - في أخريات أيامه - خوف أهوال الآخرة، ما يسبقها ويلحقها من الحساب والثواب والعقاب والشدائد القاسية. ونقل مرعي بيبي عن عبد الرحيم السبعاوي توعده في قعدة المجيرة: 
- إن لم يشأ ربيع أبو العزم إخلاء الطريق فهناك وسائل لإرغامه.
وروي عن الشيخ زين عبد الحي قوله: 
- رحل المعلم أبو العزم دون أن ينهى المهمة التي بدأها.
استطرد في نبرة تقطر حزنًا:
- أفعاله خير ما أفادت منه الحياة في بحري.
لم أتحقق تاريخ وفاته، وإن أجمعت الروايات على أن رحيله عن الدنيا في سني الحرب العالمية الثانية. 

وصلت – في قراءتي الكتاب – إلى معركة شارع السيالة. أغلقت – لضراوتها – دكاكين الشارع والشوارع المحيطة. 
لماذا سحبت السجادة من تحت قدمي الداكر في عز فتوته؟ 
الكتاب عن معارك الفتوات حوالي الحرب العالمية الثانية. تكررت الأسماء والوقائع بما يشوش الصورة الكلية.
يحزنني نسيان ما أقرأ. تأخذني القراءة حتى  أتمها، ثم أتبين – بعد أيام – أني لا أذكر كلمة واحدة مما قرأت.
أقلب الصفحات، أستعيد – بالتذكر – ما كنت قرأته، أتأمل، أقارن، أحلل، أناقش أصغر الوقائع، وما يبدو تافها. القراءات والمدونات والمشاهدات والملاحظات واليوميات والبيانات والوثائق. ربما يسّرت لي ورقة تعرض لفترة، أو لشخصية، أن أتعرف إلى ما كان غامضًا، أو مجهولًا. حفظت الكثير من الكلمات، وإن لم أفهمها. هي تتصل بالدنيا التي أتعرف إليها. خطوط كبيرة ومنمنمة، بقلم الحبر وقلم الرصاص.
موت الداكر فرصة لحنفي قابيل يصعب أن تتكرر. يتضاءل الفتوات في فتونته. لن يعوزه التدبير ورفع الشومة. 
رصدته الأعين في الأمكنة التي يتردد عليها: حلقة السمك، مسجد أبو العباس، مقهى الزردوني، الدحديرة خلف أبو العباس، داخل الدائرة الجمركية، شارع  الميدان، قبالة مرسى القوارب بالميناء الشرقية، التيرو، لسان السلسلة، قهوة فاروق، ساحة طابية قايتباي، ميدان الأئمة. 
نصبوا له كمينًا في مدخل شارع السيالة. خرجوا عليه – قبل الميدان – من البيوت على الجانبين، يحملون الشوم والبلط والسواطير والسكاكين والمطاوي. انفتحت نوافذ على أيد قذفت أوعية الماء الساخن وقطع الحجارة والفوارغ والأوساخ. جرى مساعدو الداكر – بالخوف – في اتجاه الميدان، ومنه إلى طريق البحر والشوارع الجانبية.
ما يذكره أن المرئيات اختفت، وحلت الظلمة. حين أفاق في المستشفى الأميري، عرف من الشاش الملتف برأسه، أن ضربة شومة أفقدته الوعي.
أيقظه من رقدته صوت نقرات على باب الحجرة. تابع الأصابع التي دفعت الباب، تفسح موضعًا لتايير، ذي لونين أبيض واسود، وحذاء مغلق. أحاط الرأس إيشارب حريري أزرق انحسر عن معظم رأسها، وعمق بياض بشرتها. بدا الشعر كستنائيًا أجادت تصفيفه، وألقت على كتفيها شالًا من الحرير.
حدجها بنظرة متسائلة، واكتفى بالقول:
- أنت؟
رسمت على شفتيها ابتسامة:
- تعرفني؟
في لهجة متحدية:
- أكثر مما تعرفين عن نفسك.
شغله تصور دخولها البيت المطل على الشاطئ . اجتياز المدخل وسط زحام أعوانه، صعود الدرجات الخشبية إلى الطابق الأول، الميل نحو الحجرة في نهاية الطرقة الضيقة. الباب الخشبي ذو الضلفة الواحدة، يفضي إلى الطرقة، في نهايتها أول السلم الصاعد إلى داخل البيت. من يدخل يتخلى عن كل ما يحمله. حتى ساعة اليد يسلمها إلى الحارس في مدخل الباب الرئيسي. الطرقة الصغيرة تقود إلى سلالم خشبية، يخفت فيها الضوء، فالخطوات لابد أن تكون متباطئة. الخلخال في ساقيها يصنع إيقاعًا لتأودها.
جاشت في نفسه مشاعر كان قد نسيها. تمنى - بينه وبين نفسه - أن يلمس ثدييها، انتصابهما - من وراء البلوزة - يغريه بأن يمد يده. انبجست الأحلام والتخيلات والرؤى والتوقعات، عراها في ذهنه، قبلها، ألقمته ثديها، مسد ساقيها وفخذيها، اخترقها، ترك لظهره احتضان وركيها.
رويت حكايات كثيرة عن قدومها - بصحبة زوجها - من دربالة. ترك البيت، والإسكندرية كلها، وركب البحر. تركها وحيدة في البيت المطل على مقام ولي الله كظمان. لم تنجب من زوجها. دارت خيبتها لما تبينت ربطه في الليلة الأولى.
لما بلغها نبأ وفاته ظلت على هدوئها، كأن ذلك ما كانت تتوقعه. طال غيابه ففقد الاستقرار في حياتها معناه. 
إذا لم يكن الغدر ما فعل، فماذا يكون؟
يراودها الخاطر، الأمنية، الهاجس، لو أن زوجها لم يخذلها، لو أنه عاد إلى الإسكندرية، وعاشت في بيتها زوجة، وأنجبت أبناء.
اعتزمت نسيان دربالة. وصلت ما بعد قدومها إلى الإسكندرية بما قبلها، فهي ابنة مدينة البحر. عملت خادمة في البيوت، جالست زبائن كازينو ستانلي، أعدت التعميرة لقعدات الحشيش في صحراء المتراس، غادرت الدائرة الجمركية بممنوعات أخفتها في ثيابها، عملت بمفردها.
هل تفقد الحياة معناها إن خلت من مشاركة الرجل؟!
لم تعد صورة المرأة تفارق مخيلته. أحب مشيتها المتباطئة. لا تفارقها عيناه، وإن شرد في رؤى وتصورات. تظل معه، حتى في أوقات الوحدة، يختلط الحب والشوق والرغبة والأحلام والمغامرة والأسرار المخفية والشك والأسئلة والتصورات والحكايات المعيبة والهمسات الرافضة. 
ملكت قلبه، استولى عليه حبها، يتظاهر بالتطلع إلى ما حوله، حتى لا يواجه عينيها. تلتقي الأعين فتتجه بنظراتها بعيدًا. ثم اعتاد لقاء نظراتهما، فهي – إن رأته – لا تشيح برأسها. تصور أنها تضمر له المشاعر نفسها التي يحملها لها. صار دائم الجلوس إلى طاولة فى طرف المقهى، على ناصية شارع قصر رأس التين، يتيح لنفسه رؤيتها، ولتعرف أن ذلك ما يريده. هي أول امرأة تدخل قلبه. يرى وجهها في كل ما حوله، ليس في مكان محدد، إنما في كل الأماكن التي يخلو فيها إلى نفسه. لم تعد صورتها تفارقه، حتى في الأحلام تزوره، يستحضر جسدها الفارع، المتناسق، ملامحها المنمنمة، تعبيرات يديها. ترتدي ما اعتاد رؤيته عليها، تهمل النظرات والمعاكسات وعبارات الغزل التي تلاحقها من رواد قهوة الزردوني. تمسك لسانها عن الشتم، وتخلي شفتيها لابتسامة، إن استهوتها الكلمات. تمضى فى طريقها دون أن تتلفت. تترك لخيال كل منهم تصور حياتها في البيت. هي القمر، وهم النجوم في سمائها.
تغافل كلمات فسفوس صبي جمعة مخلوف المحذرة: 
- هذه المرأة هي حية إبليس، سلّطها على بحري لتغوي رجاله.
قال عبد الستار:
- حدد الإسلام تعدد الزوجات بأربعة. أما سعدية فتدعو إلى إطلاق تعدد الزوجات.
قال فسفوس في لهجة محرضة:
- إنها امرأة كل الرجال.
وعبر بيديه:
– إنها تمارس مع الرجال لعبة أنثى النحل. تمتص الذكر وتقتله!
استطرد عبد الستار في لهجة شامتة:
- هي لا تفتح ساقيها إلّا للرجل الذي يجتذبها، ترضيها كلماته وتصرفاته.
حين رآها – للمرة الأولى – في حلقة السمك، اتسع الأفق أمامه. اجتذبته تمامًا، استولت على مشاعره. تمنى أن تدخل حياته، وإن لاحظ خلو أنفها من الرقة الأنثوية. يحب الأنف الدقيق، المنسجم مع ملامح الوجه. هذا ما تختلف به المرأة عن الرجل. في منتصف الثلاثينيات من عمرها. فى عينيها حول خفيف، زغللة، أضافت إلى جمالها. استغنت عن الملاءة اللف، والبرقع، والمنديل بأويه، ذي الحواف المطرزة بالترتر اللامع. استبدلت به تايير من اللونين الأبيض والأسود، بدت كتفاها عريضتين بالقياس إلى ما حول خصرها. أحاطت رأسها بإيشارب حريري أزرق.
هل هو التقدم في السن؟
روى ما يصعب تصديقه: رجل الليلة الواحدة. يجتذبها من تخمن فحولته، تلتقطه نظراتها، تومئ لشيحة مساعد المعلم سلطان المرسي، فيستبقيه. يأخذه إلى عم شومان في حمام الأنفوشي، لا يترك الحمام إلّا بعد أن يملط لحمه. تعطيه نفسها دون أن تسأله عن اسمه، ولا عن مهنته. لا يتيح له عم شومان الدخول عليها إلّا بعد أن يعرف أصله وفصله. يقضي في فراشها ليلة واحدة، ثم ينسى، تصل بفخذيها ما جرى - مع رجل آخر - في الليلة السابقة. إن حاول التمادي- ولو بالتذكر – فإن الإغراق في المالح مصيره. 
أدرك عويس الداكر أنها لم تلحظ لهفة نظراته، أو أنها اعتادت لقاء نظراتهما، فهي – إن رأته – لا تشيح برأسها. تدرك - في ابتعادها - تعلق عينيه بها، وإن غابت ردود أفعالها لكلماته وتصرفاته، كأنه لا يعنيها. اعتادت النظرات التي تتابعها في الحلقة، أو في الطريق، عرف أنها امرأة لها تجاربها، وإن لم يعرف إذا كانت متزوجة أم لا. 
حاول أن يسترعى التفاتها، لكنها تحاشت النظر إليه. تمر على القهوة، تلمحه، فتشيح بوجهها. تزوغ بعينيها. تلاقت أعينهما، فعراه ارتباك. سعد بتصوره أنها فطنت إلى إلحاح نظراته، لاحظ انتباهها، تحول عينيها، ثم تلتفت. حدق فيها بنظرة محرضة، تمنى أن تقابل نظرته بالفهم، لكنها حولت رأسها. تشفق – ربما - على مغالبته الارتباك. يفقد القدرة على فعل شيء سوى انتزاع ابتسامة، يعاني فلا تبين عن ارتباكه. سكن حبها في نفسه، فهو دائم الانشغال بها، أخذته عما حوله، يشرد عن كل شيء، سوى متابعة تحركها. وجدت في اقتحام النظرات المتسللة لعبة مسلية. لم تحاول أن تسأله عن معنى نظراته. تعمدت ألّا تسأله، فلا تضع في باله ما قد يحلو منه، يظل على فهمه أنها ليست من الصيد الذي يسقط في شباكه.
اعتادت النظر - بجانب عينها – إلى الرجال المتناثرين في الحلقة، يغطون الطاولات بقطع الثلج. تحرص على أول كوب من دم الترسة المنسكب من ثقب في العربة الخشبية، تتحرك بين الطوالي، تقلب الأسماك، تشمها، تفاصل، تشتري. حصنت نفسها بحاجز غير مرئى، لرد الفضول والمضايقة. حدّست موضعه من وقفته خلف عربة الترسة، ينتظر كوب الدم الساخن، لا تلتفت وراءها، وإن تشعر بعينيه تتبعانها. اختزلت دائرة الرجال، فاقتصرت عليه. 
أمعنت النظر فى ملامحه المجهدة: الكتفين المتهدلتين، الوجه الناحل، الهالة السوداء حول العينين، التجاعيد في جانبي الفم، الذقن المهملة، النظرة الشاردة.
شاهد صبيًا في سوق الحصر يردد:
الداكر ضربه قاسي.. ياما كسّر بالكراسي.
مات الولد لما ناداه:
- أتعرفه ؟
في خوفه:
- من؟
- الداكر.
- سمعت الأغنية.
لكزه في كتفه:
- لا ترددها!
قتله ما نقل عن لسان حنفي قابيل. حذّر صبيانه من محاولة قتل الداكر: 
- قد تحسبه الحكومة علينا رجلًا. يكفي تأديبه، وفضحه، فلا يستطيع ادعاء الفتونة.
انعكست الهزيمة تثاقلًا في الخطوات، وحرصًا على عدم التقاء الأعين. شعر أن كل ما حوله يتداعى، يتقوض، ينهار. ما لقيه في قسم الجمرك ضئيل إلى جانب ما حدث في السيالة، لم يدر بخاطره حتى توقعات أخطاره. حكاية ما جرى جاوزت السيالة إلى شياخات بحري، إلى الرمل، وأحياء المدينة الأخرى. 
أخذته المفاجأة، لم يجد من الوقت ما يتيح له كبح الذهول الذي قيد تفكيره، والتصرف بما يدرأ الخطر. أخفق في فهم ما جرى، في استيعابه، يواجه عالمًا لا يفهمه، ولا يستطيع تفسيره. شعر بالتشتت، وفقدان القدرة على التركيز. استعصت الكلمات، فلاذ بالصمت.
عجز عن مغالبة الحزن الذي تسرب إلى نفسه. شيء انكسر فى داخله، يؤلمه الإحساس بالهزيمةً، يقتله، بدت الدنيا فى عينيه مظلمة، كريهة، لا تحتمل. يعاني تداخل المرئيات، والتهويمات، والهواتف التي تدعوه إلى فعل ما يصعب فهمه. 
اختلطت أمامه المسالك، لا يدري في أي منها يسير. فكر فى أن يصرخ، أو يصيح، ربما يخفف مما يعانيه. تملكه الحزن، ناوشته الأفكار القاسية. أخفق في أن يستدعي إلى ذاكرته ما يبدًل مشاعره. حبس نفسه فى بيته، لم يعد أحد يراه غير مساعديه. يفضل الخروج – من البيت – ليلًا، السير – مختفيًا – فى الشوارع، يتجنب لقاء الناس، تملكه الحرج من أن يراه الناس على صورته الحالية، فرضي بنصيحة الطبيب الأرمني مردروس، لزم البيت – إلّا لضرورة - حتى يستعيد عافيته. لم يتصور انفضاض مساعديه من حوله. ينكره الناس. يشيحون بعيونهم عنه، يصمون آذانهم عن الإصغاء لكلماته، مفارقة المكان الذي يدخله. ثبّت في باله الانتظار، حتى يظهر ما يتيح له المواصلة، أو يتوقف. عليه – قبل العودة إلى الغابة، أن يعرف ما ينتظره من وحوش، يصارعها فيحتفظ بالحياة.
أزمع أن يصبر على انتقامه كالصبر على الحصاد. يتحرك في دماغه مردة وجان وعفاريت وما لا يعرفه من المخلوقات التى تدفعه إلى رد الأذى. ألف – في أيام فلاحته – أن يقلب التربة، يلقي البذور، يروي، يراقب النبتة في نموها حتى يأتي وقت القطاف. لا يمل انتظار اللحظة التي ضيع العمر ترقبًا لها. 
قالت وهي تتفحص – بعينيها - مواضع الضربات:
- هذه معركة خسرناها، سننتصر – بحول الله -  في المعارك التالية.
في نبرة تسليم:
- إذا كنت قد نجوت فهذا بفضل الله.
اجتذبته "النا"، كما اجتذبته الإثارة في صوتها. رمقها بارتياب، خمّن أنها تضمر ما لم تقله، أو أنها مدفوعة للسخرية من حاله. 
وهو يمضغ المرارة:
- نسيت أنهم يسعون إلى تدميري. خطئي أني لم أسبقتهم إلى الفعل.
آلمتها طريقة كلامه، عرفت أنه يبذل جهدًا فى مغالبة ما يعانيه. أدركت معاناته من تخاذل نبرة صوته.
- انفض عن نفسك ما يقلقك.
ثم وهى تعدل الإيشارب الأبيض حول عنقها:
– كل ما جرى القه خلف ظهرك!
عاود التحديق، كأنه يريد أن يعرف ما تخفيه في نفسها.
قال:
- عندما ننسى حدثاً، فليس معنى ذلك أنه لم يحدث!
أبقى يدها في يده، وضغط عليها.
حركت يدها، فعلت وسوسة الأساور في ساعدها. هرش إصبعها ما بين ساقيها، هل هو عفوي، أو أنها تقصد إثارته؟
استفزت حواسه:
- أنت أجمل من ست الحسن.
فردت أصابعها الخمسة أمام وجهها:
- هل رأيت ست الحسن؟
تصيد ابتسامة ومضت على شفتيها:
- من منا لم يشاهدها في صندوق الدنيا؟!
أطلقت ضحكة ملونة:
- عش الدنيا. لا تكتف بمشاهدتها.
السنارة غمزت!
هنأ نفسه - دون إفصاح - بعروس البحر التي ستصحبه إلى دنيا السحر والمتعة والوجد والحلم والغموض والأسرار العصية على الحلم. تذكر - لا يدري لم - ما رواه الناس عن عزيزة الفحلة وسكسكة وجليلة وتوحة ومجانص، فتوات سرن في طريق الغلبة على الرجال.
حدجها بنظرة متأملة. كم رجلًا قبل هاتين الشفتين؟
غالب ارتباكه:
- من أحبّك قبلي؟
- اسألني: من لم يحبني؟
ورمقته بنظرة زاجرة:
- أريد رجلًا أحبه وأعتمد عليه.

يتبع
 





تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق