تعددت الروايات عن الرجل الذي أذن له الحاج نعمان بالإقامة في الحجرة. قيل إنه أراد أن يمنع أذاه عن الناس، يدرك الحيل التي يترك بها موضعه داخل الحجرة، يمضي إلى حيث لا يدري أحد، ويعود. يجتذبه بالإنشاد والابتهالات والتسابيح، كما تغوي عروس البحر من تصيدهم بغنائها، تعددت الحكايات عن سيرته، أضيفت إليها هوامش وفروع وما لا تصدقه العقول، وإن لزم الناس نصيحة الشيخ زين عبد الحي أن يلجؤوا – إذا جاءت سيرته، أو التقاهم في الأسواق - إلى قرآن الله، ومدد أوليائه، فلا يخطر لهم في بال، ولا يصادفونه في الطريق.
طويت الكراسة المنسوبة إلى حنفي قابيل فتوة كفر عشري.
هل كتب الرجل ذكرياته؟
الذكريات تختلف عن المذكرات في أنها تستعيد ما حدث. أما المذكرات فتعرض للحظات المعاشة. قوام المذكرات أوقاتنا الحاضرة. قد تستعيد أيامًا قريبة أو بعيدة. أما الذكريات فإنها تؤرخ لما بقي في الذاكرة من سحن وأحداث.
الأوراق - في قراءتي لها - ليست مذكرات ولا ذكريات، أراد حنفي قابيل- حسب تعبيره - البوح، الفضفضة، مراجعة المواقف واستخلاص العبر. لعل الأمر لم يكن من نفسه، ربما أشار عليه أحد.
لماذا طالب قابيل بألا تنشر سيرته الذاتية في حياته؟ لماذا الحرص على أن تدور بها المطبعة بعد أن يترك الدنيا؟
الصفحات مسوّدة بكلام كثير، لكنها لا تقول شيئًا، عبارات نميمة ووشاية وحسد، يغلفها ادعاء السرّية، ما اقتصر سماعه على أذن حنفي قابيل، أو أن عينيه وحدهما رأتا ما حدث. أدركت من سهولة الكلمات أنها مملاة، فزاد الكاتب من مخيلته ما يصعب تصديقه، كالمؤاخذات على شخصه وأفعاله.
هو من كفر عشري، لكن الكتابات لم تشر إلى مسكنه: أين يقيم؟ وهل له زوجة وأبناء؟ وهل صحبهم معه إلى الإسكندرية، أو ظلوا في مدينته شطورة؟
لم أجد في رسائله الشخصية ما يعينني على فهم الغامض من حياته، كأنه تعمد الغموض، وإخفاء ما قد يبدل صورته.
لعل ذلك ما أراده الكاتب.
أذكر من قراءاتي، أن جمعة مخلوف صارح حنفي قابيل برأيه، في قهوة مخيمخ، وبجرأة ما تبقى من العمر:
- تقدم سني يحضني على قول الحقيقة.
لاح الضيق فى عيني قابيل:
- الحكم على نفسي لا أتسوله من أحد. أنا خير من يحكم على صحة ما أفعله.
كان قد مضى على قدوم حنفي قابيل من مدينته في الصعيد ثماني سنوات، وكان في عزه. ضاق جمعة مخلوف بتصرفاته، الفتوة الحقيقي يرفض الغدر، ينادى على خصمه ليواجهه قبل أن يبدأ خناقة، يلقي سلاحه إذا كان الخصم بلا سلاح. يحترم المسالم والضعيف، ويحتقر الجبان، يرفض أن يوجه إليه كلمة.
مارس أفعال الفتونة وهو في مدرسة شطورة الأولية. وشت حركاته الكثيرة، العنيفة، بميله إلى العراك. يتسلق الأشجار، يقذف ثمار التين والجميز بالحجارة، يننزع الصمغ من شجر السنط، يطلع النخل، ليسقط سباطات البلح، يهجم على أعشاش الطير، يطارد السحالي والدبابير والحشرات الطائرة. يصادق الكلاب، يقتني القطط، يلعب الكرة في الجرن والأرض الخلاء، يجري وراء الموالد في المدن والقرى القريبة.
عرف ما لم يكن يعرفه في تردده على سوهاج وإخميم وطما وطهطا والمراغة عمل في تسوية الغيطان، وري المحصول، وحصاده، وتشوينه، وفي تطهير الترع والقنوات، ونزع ورد النيل والبوص والأعشاب النيلية.
لم يكن خاض أولى معاركه حين صارحه أبوه – متحسرًا – أنه وضع أصابعه في الشق، فلا أمل فيه.
لا يذكر متى – بالتحديد – أزمع ترك شطورة، والسفر إلى الإسكندرية.
لماذا الإسكندرية؟
ربما لأنها موطن المئات من أبناء مدينته. قدم إليها بعرج في قدمه - ما لبث أن عالجه - إثر اصطدامه بشجرة في السكة الزراعية، وهو يفر من عقاب أبيه.
اختار الإقامة – لداعي العزوة – في كفر عشري الملاصق لكوبري التاريخ. امتدت العلاقة إلى مينا البصل والقباري والورديان والمكس والدخيلة والعجمي. قصر طعامه - لفترة طويلة - على زواد القرية: العيش الشمسي والبطة المحمرة والملوخية الجافة والمش والجبن القريش.
حاول - في أيام إقامته الأولى - أن يسطو على بيوت المكس، متلاصقة، لا تعلو عن طابقين، يعبر البيوت بالقفز فوق الأسطح، والقفز فوق الحوائط والأسيجة والجدران، يذوب في الشوارع المتجهة إلى صحراء المتراس.
المفاجأة اقتحمته في بيت آخر الصحراء، رآه شيخ الصيادين عاشور حميدة من جلسته مع أصدقائه فوق السطح.
مكانة عاشور حميدة أوصدت في وجهه كل الأبواب.
سكت ربيع أبو العزم عن الإلحاح المتوسل لمساعديه من جلساء المجيرة، فتصوروا الرفض، ثم استأذن عاشور حميدة، فجعله من مساعديه.
تنامت في نفسه – بتقضي السنوات – روح عدائية، إرادة خفية، قوية، تدفعه إلى العداء. لا يدري أسبابها، ولا لماذا تفاجئه ثورته كما فاجأت من اتجه إليهم بعدائه. عرف عنه الحدة فى المجادلة. يخفق في السيطرة على مشاعره وانفعالاته. إذا واجه ما يثيره أو يغضبه، فإن الجن يركبه. يشعر أن شخصًا آخر شقيًا، يتحرك فى داخله، يملى عليه تصرفاته وكلماته. يثيره الغضب فينتفض. تتفجر رعود، تثور براكين، تندلع نيران. يمتلك قدرة هائلة على الاقتحام. اعتاد نطق الجنيه بلهجة مدغمة. أجاد تعلم اللهجة السكندرية، ونطقها. وإن داخلتها الجيم المعطشة ولكنة الصعيد. اشتهر بالروسية والشخر وافتعال المعارك. حتى صوته يعلو بنبرة تبدو له غير مألوفة. يغالب شعوره بالعداء. وأنه مدفوع بما لا قبل له على مقاومته.
لم يتعلم القراءة والكتابة، ولا تعلم حرفة تعينه على الكسب. تنقل عتالًا باليومية بين شركات الشحن والتفريغ، ثم عمل ثلاثة أيام بائعًا في دكان خردوات بزنقة الستات، طرده بعدها صاحب الدكان:
- لا معنى لكثرة ترددك على مسجد الخراطين إلّا أنك تعاني السكر!
كتم ما دفعه إلى صعود المساجد المعلقة: تربانة. ميبر. الشوربجي. الخراطين. تعلو عن الصخب - الذي لم يألفه - في أسفل!.
أمضى أيامًا قليلة عاملًا للإنارة في شركة ليبون بالمنشية الصغرى. يهرول بالعصا بين مصابيح الغاز، يضيئها قبل الغروب، ويطفئها عند الفجر. ساءه هتاف الأولاد: عفريت الليل بسبع رجلين. إن رد على الأولاد فسيصبح في وضع هلال الأحمدي. أسند عصا الاستصباح إلى حائط الشركة، ومضى.
أدرك أنه خلق للفتونة، للسيطرة وفرض الإرادة. استبدل الشومة بالشرشرة والفأس. تعلم الإمساك بالجنزير والسيف والمطواة، كيف يخترق نيران المآزق. اقتدى بالمعلم جمعة مخلوف في زيه وتصرفاته ومفرداته ولهجته الزاعقة. قلده في طريقة كلامه، مشيته، قعوده، وقفاته، حتى صوته بدا اصطناعًا لصوت جمعة مخلوف، وإن تحولت الجيم – في لكنته الصعيدية – إلى دال، والشين إلى سين.
أول درس بادره به جمعة مخلوف:
- أخطر الأشياء عندما يظن المرء في نفسه قوة لا تلبث أن تخذله في أول تجربة.
ورفع صوته ليدفعه للإنصات إليه:
- إذا أردت الفتونة فإن عليك أن تزرع الخوف في النفوس!
وجرى بجانب يده على عنقه دلالة الذبح:
- لا اختيار، عليك أن تقهر الجميع بالخوف!
اطمأن إلى جمعة مخلوف بالقدرة على الاحتمال والمراوغة والاختفاء والتسلل والتنكر والابتكار والذكاء والدهاء والمهارة والجسارة. أتقن صنع المكائد والحيل والدسائس، للخلاص من المنازعات والأهوال والشدائد.
لعبت الهواجس برأسه، سولت له فعل الشر. لا يذكر الشخص الذي يضمر، يعلن، له الرغبة في الإيذاء. ربما التقيا للمرة الأولى، أو أنه من فتوات الأحياء، أو حتى من خواص مساعديه. اعتاد دخول المعارك، ينتصر في واحدة، وينهزم في أخرى، يغيب عن المعارك حتى ينسى الناس، ثم يعود لمعارك تالية.
يعد نفسه للخناقة. يبدأ - حتى يزيل همسات التطاول على مكانته - بزيارة بوظة المناديلى فى الورديان، ينزل الطريق فى أذان الظهر، يخترق الشوارع حتى يبلغ القهوة التى سبقه إليها صبيانه، هي القهوة التي اختارها حنفي قابيل لمجالسة قاصديه. يبدأ الصبيان بالعبارات المضمرة، وبالاستعارة والمجاز والكناية والتلميز والسجع والجناس والتورية والتشبيه والتكرار والإيحاء والإضمار، تقصد المعنى المحدد. يتظاهر الرجل – فى وقت يطول أو يقصر – بعدم الفهم، حتى تصفع الكلمات المباشرة أذنيه، بالسباب والشتائم والمعايرة والتهديدات، فيحرك الشومة.
اشتدت عافيته، وزاد مساعدوه، مال إلى التردد على أحياء الاسكندرية، يدخل معركة مع فتوة كل حي، يغلبه، ويعود. تنطلق الصيحة، فتمتد الأيدى إلى السكاكين والسيوف والشوم.
قال:
- لا يصاب أحد بأذى إذا دفع ما عليه.
قاسم التجار وذوي الحرف أرباحهم فى عمليات البيع والشراء. أكره الحاج عوض الفقي على بيع دكانه للمانيفاتورة بشارع فرنسا، حطم أعوانه مطعم " عيش وملح" بشارع السكة الجديدة، أغلقوه. أمرهم حنفي قابيل بالفعل لخلو شوربة العدس من الملح. فز لرؤية شعرة فى حساء مطعم" أكلة هنية " بالقباري. أصر أن يغلق المطعم أسبوعًا، حتى لا يتكرر ما حدث. يحرض أعوانه على الخروج ليلاً، يسهل اصطياد العدو خلف ساتر الظلمة، يتم الأمر فى سرية وهدوء، فى النهار يسهل انكشاف من نفّذ فعل التخلص من الخصم.
حين أصيب عثمان الجرايحي بزكام، قدم له سعوطًا من سوق الترك، دس فيه سمًا قاتلًا، خنق الجرايحي بمجرد تشممه، أفقده حياته. تابع إعداد فطيرة محشوة بالسم، اختبرها فى قطة تموء تحت قدميه، فماتت لتوها.
لم يعد له من عمل إلًا افتعال المعارك، بمفرده، أو بمساعدة من يطمئن إلى ولائهم، لا تبدَلهم مغريات النساء والمال. أغلقت شومته الكثير من الشوارع.
امتدت معاركه إلى كل أحياء الإسكندرية. لا يحمل سلاحًا، حتى لا يقبض عليه البوليس ومعه ما يدينه. يغيثه شهود على أنه لم يكن موجودًا في الإسكندرية وقت المعركة. خاتمه الضخم يلتف حول إصبعه، يكفل تكسير الأنف أو الأسنان. يحسن الملاكمة، واستعمال المقص والروسية. قد يلوى الذراع، يحيط بخصر عدوه، فيعصره، تكاد روحه تطلع من فمه، ينهال على رأسه وصدره بقبضة حديدية، يركل - بقفزة مفاجئة - ما بين الفخذين، فينهي المعركة. إذا مر على قهوة، انتتر الجالسون وقوفًا لتحيته، لا يعودون إلى أماكنهم إلاّ بعد أن يميل في شارع جانبي.
أحكم قبضته، بتوزع صبيانه على المسافة من صحراء المكس إلى كوبري التاريخ. يشعر أن كل الناس - مهما تعلو مكانتهم - فى مدى سطوته. عرف في سني عمله مشعلًا لمصابيح الغاز ناسًا كثيرين. حتى الأولاد الذين هتفوا وراءه: عفريت الليل بسبع رجلين، جروا من شخطته المتوعدة، ثم اجتذبتهم البسمة العريضة في وجهه، قصروا متابعته على إيقاع خطواته، ومتابعة إشغال المصابيح في هرولته على جوانب الأرصفة.
إن أراد شيئًا، فلابد أن يحصل عليه. هو وحده يمتلك الاختيار. يسأل، يناقش، يقبل، يرفض، يبدي قناعاته، لا تشغله آراء الآخرين. يحكمه الغضب والعناد والغيرة والغرور والتحكم والسيطرة والرغبة في الامتلاك.
يرى في الرجال الذين انتموا إلى سواه، وابتعدوا عنه، باحثين عن الذل والمهانة:
- إنهم كلاب ضالة. مهمتي أن أداوي أمراضهم أو أقتلهم.
لم يكن له صلة عمل بالصيادين، وإن قيل إنه تزوج جنية، لا يقوى على مضاجعتها إلا في الشتاء، لشدة السخونة في جسمها، إذا انتهى منها، أسرع الى البحر، يستحم في موجه، ليذهب عنه الحرارة الشديدة.
تطول جلسات صيده بالسنارة على مكعبات الأسمنت في بحر العجمي، يعوم في الموج الحصيرة. لكي يحتفظ بعافيته، فإن ارتشاف كوب دم الترسة حرصه كل صباح، يصعب عليه – لطول السهر – أن يبكر في التوجه إلى الحلقة. التشارك في شراء الترسة يسبق ذبحها. يحرص على منابه من الترسة قبل أن يجول البائع حبلص بالعربة الصندوق الخشبية حواري الأنفوشي والسيالة، يستكمل ما ينتظر به الذبح فيحصل كل واحد على قيمة ما دفعه. لابد من اكتمال قطع الترسة بوزنها قبل الذبح فلا تفسد. يكتفي بالتوصية على راتبه من دم الترسة. يحتفظ له حبلص بأول كوب. ثم يوزعه بأسماء المشترين. يضيف إليه – أوقات النهار- زيت السمك وأدوية المقويات. يعطي الشراب بنيته – فور احتسائه – قوة، تغادر عافيته زنزانة الجسد، تطول قامته، تمتلئ عضلاته، يتحول إلى كائن لا يستطيع أحد أن يعاركه.
فرض الخوف على الناس بالوجه العريض، ذي الوجنتين البارزتي العظام، والعينين البنيتين، الواسعتين، سريعتي الحركة، والأنف المدبب، والأسنان المفلجة، والشارب الذي غطى الشفة العليا، ولامس السفلى، والكتفين المرتفعتين. يحاول مداراة الصلع عن معظم رأسه، بتثبيت الشعر - خيوطًا - من جانب إلى آخر.
يرتدي البنش، أو السروال الأبيض الفضفاض، يضيق عند الكاحلين، والقميص المفتوح على صدر ذى شعر كثيف، والحذاء الأجلسيه. يتأمل كلماته بعد أن ينطقها، يعلو وجهه ما يشبه الإعجاب، له نظرة مقتحمة، لا يعطى حسابًا لتصرفاته، ما يواتيه يفعله دون تدبر، أو يأمر مساعديه، الضرب، السطو، التدمير، الإحراق، القتل. يعتز بأن شومته أنهت معارك كثيرة، وإن كان - بينه وبين نفسه - يخشى المجهول، فلا يتعامل إلّا مع من يطمئن إليهم، ولا يسمع إلّا ما يريد سماعه.
عرف عنه مواعدة النساء في كابين يسار شاطيء العجمي. أن أحرم من المرأة، فأنا أحرم من الحياة. لخص أيامه في الأكل والشرب والمضاجعة والنوم، عدا ذلك لا معنى له، ولا قيمة، ربما جر متاعب لا يريدها.
تعددت الروايات عن أفعال حنفي قابيل. أفعال خارقة تنسبه إلى شخصيات الراوي في مصطبة القهوة: عنترة والزناتي والهلالي وبيبرس. يخترق الشوارع بتيقن غياب القدرة على تحدّيه. فى يده شومة يطوح بها وهو يسير بخطوات متباطئة في الشوارع الخالية. يقلص ملامح وجهه بما يسمه بالعنف والقسوة. يتطلع – بنظرة متسائلة – إلى النوافذ والشرفات. ما بين مفتوحة على مصاريعها، ومواربة، ومغلقة. حزمة من الانفعالات، يرضى، يغضب، يسخط. تتملكه قناعة بأن المساعدين، وأهل القباري والورديان والمكس، لا يقوون بدونه على فعل شيء. لا يأذن لصبيانه بالسير إلى جواره، يتبعونه بخطوة، ويتقدمونه – لتلقي الضربات – إن خاض معركة.
يرفض أن يناديه أحد باسمه المجرد، لقب المعلم يسبق الاسم، ولا يأذن بإبداء الرأي، مجرد القبول أو التحذير أو الرفض. يخفى، وراء بساطته الظاهرة، نفسًا معقدة، تميل إلى التوجس والعداء والعنف. لا يأذن بسؤال، و إيماءة تذمّر، أو اعتراض. ربما يذهب خطأ التصرف إلى الهلاك. ينتشي برؤية الخوف في أعين الناس. يخشى الموت دون أن تشغله التوبة.
لم تعد الجلوات تمضي من القباري وطالع إلى وسط المدينة إلّا بإذنه. لصاحب المولد قدره واعتباره، لكن المواكب والجلوات والرايات والأشاير والأعلام والمشاعل المضيئة لها قواعدها التي ترفض المجاوزة.
لأن العروسين اللذين ينتقلان من حيهما إلى حيّ آخر، لابد أن يستأذنا فتوة الحيّ الجديد، اختار منطقة أبو العباس مجالًا آخر لسطوته. بركة الطواف حول المرسي واجبة لكل عروسين ليلة زفافهما. يتناثر أعوانه حول الساحة الواسعة، يسألون عن الموافقة. الموافقة لها معلوم.
من يغامر لقاء الرفض ليلة زفافه؟
قيل إنه صاحب فكرة الزفة الاسكندراني. اخترعها ليتقدم الزفة، إن لم يحدث ذلك، فلا أحد يدري مصير الزفة، ولا مصير المشاركين فيها. حتى العريس قد تؤذيه ضربة شومة.
يسبق أعوانه أهل العروسين بالهتاف:
ياما انت صغيّر.. حلو يا عريس.
ويردد:
يا عريس يا حلو يا ابن الناس
يا وردة محطوطة فى الكاس
هنـزوّرك لأبو العبـــاس.
يصحب أعوانه موكب العروسين، حتى يتسلمه فتوات الأحياء الأخرى. الشومة الغليظة تتقدم الموكب. لا تشرع شوم الأعوان إلا لضرورة. ربما هوجم الموكب المتقدم، فيثور غبار الأقدام والأجساد المتلاحمة والشوم والخناجر.
تهامس صبيان حنفي قابيل بأن حسن تلمذته لشيخ الفتوات جمعة مخلوف، أهلته لأن يتسلم زمام الخلافة من بعده.
رفع بيد كرسيًا، وهو جالس في قهوة البوستة، تلقى الضربات، بينما تواصلت ضرباته بالشومة التى لم تكن تفارقه، فقضى عليهم تمامًا.
حملت الإسعاف الجرحى عدة مرات، وحنفي قابيل في مجلسه، ينفث دخان النارجيلة.
واجه ربيع أبو العزم الصول رشدي أبو حطب بالسؤال:
- لماذا ألغى المأمور سباق البنز؟
فى سباق البنز، ما بين قصر رأس التين وقصر المنتزة، تتحرك الإشارة، فتنطلق الجياد، في صفين أو ثلاثة، يضيف إلى عزمها ضرب الهواء بالكرباج، وجذب الألجمة، والصياح المستحث. يصطف الناس على جانبى الطريق، يعلو التصفيق والهتافات وعبارات الإعجاب والتسخيف، تتسع المسافة باتساع الوقت، تتباعد عربات البنز فى اندفاعها على الطريق، يعود البنز الأول إلى قصر رأس التين، بينما آخر البنزات لم يبلغ قصر المنتزة.
لبريمو، حصان ربيع أبو العزم شهرة تفوق ما للحصان الذي يمتطيه محمد علي في ميدان المنشية: حصان محمد علي يشارك صاحبه جمود الموت. أما بريمو فهو يسابق الحياة نفسها!
الفوز بالسباق ينسيه حتى العلاقة بينه وبين بريمو، فهو يجذب اللجام بآخر عزمه. يتطاير الشرر من احتكاك حوافر الحصان بالأسفلت. عدا وقت السباق، فإن بريمو صديقه، يسأله، ولا ينتظر إجابة، يمسد بأصابعه الغرة البيضاء أعلى الجبهة. يمسح ظهره، يربته، يطعمه قطع السكر. يوصي بشراء مكسرات لإطعامه من سوق النقلية، أول شارع الميدان.
أخفق "بريمو" فى السباق الفائت، بالكاد بلغ خط النهاية، واجه ربيع أبو العزم تأثر حنفي قابيل بالقول بلهجة مستخفة:
- إذا كان الحصان قد خذلك، فإنى أعرض شراءه.. بَيعة بالخسارة!
لم يجد في عينيه ما يطمئنه:
- شكوت الخيانة وليس إخفاق الحصان.
وكست وجهه ملامح مستاءة.
- أهديك ولدًا من عيالى، أما الحصان فلا أتصور فراقه!
حين ألغى سباق البنز فى صباح يومه الأول، تغافل حنفي قابيل - في جلسته بقهوة عرفة - نظرة السخط في عيني ربيع أبو العزم.
- عيشة الناس غلب.. لماذا تحرمهم من الفرحة؟!
لم يصدر قرار الإلغاء. خشى أن يثير غضب الناس فى بحرى. حكى للبكباشى أسامة دويدار مأمور قسم الجمرك ما يثير الريب. أوقف المأمور عساكره فى المسافة من رأس التين إلى مرسى القوارب بالمينا الشرقية. ألغى السباق لأنه يربك المرور، وقد يوقفه تمامًا. أضاف المأمور إلى الإلغاء تهديدات بمصادرة عربات البنز، وجر أصحابها إلى القسم.
عض حنفي قابيل بأسنانه على طرف شاربه:
- تياترو المسيرى يسع الجميع.
كور ربيع أبو العزم قبضته تحت أنفه:
- هذه مسابقة ورثناها من الأجداد.. لماذا تلغيها؟!
ترك حنفي قابيل كرسيه دلالة رفض الإصغاء، ومضى فى اتجاه الميدان. لحقه ربيع بضربة كرسى فى ظهره. استدار بعينين غاضبتين، ركبه ما لم يره، وإن أحس به، من الجن. هوى بالشومة على رأس أبو العزم، فشجه. انبثق الدم، غطّى الوجه، تطاير على الأرض والحائط. دفس رأسه في صدر قابيل، طير الشومة من يده، استبدل بها مخطافًا لصق جوار الشارع. دنا من قابيل، ثم أخلى المخطاف من يده. ارتمى على قابيل، أحاط وجهه براحتيه، أخلاه وهو ينطحه برأسه، أدار ذراعه حول عنقه، وضغط بقسوة، حتى أحس بالاختناق. أدرك قابيل أنه لا قدرة له على المقاومة، وأن ساقيه المرتعشتين تخذلانه. هو غريق، يتخبط في أمواج عالية، متلاطمة.
شومة أبو العزم للتخويف وليس للضرب، رأسه أداته فى أذية خصومه، ترتطم الجبهتان، فيعاني الخصم، وتظل رأسه على صلابتها.
تداعى صبية حنفي قابيل، أظهروا السلاح، وتنادوا بالعراك.
ظلت الخناقة إلى ما بعد أذان المغرب، نالت ضربات الشوم أبو العزم وقابيل، كما نالت الصبيان. علت التهديدات والصيحات والصرخات. أمواج المعارك أغرقت الميدان والشوارع الجانبية. احتجز السكان المطلون على الميدان، حوصروا بوقفات المساعدين في الشوارع المفضية إلى الميدان، وعلى النواصي. تعالى الصراخ والبكاء والعويل والتحذيرات ونداءات الاستغاثة. أغلقت المحال، وخلت الشوارع من المارة، وغابت الوجوه من الشرفات والنوافذ. ترك الناس أموالهم وأمتعتهم، نجوا بأنفسهم وأسرهم، يمضون بالصراخ وطلب الغوث.
فاحت رائحة الموت.
قبل أن يحل الغروب، تدخل الشيخ زين عبد الحي، شاركه تجار وأصحاب محال. نذرت ذبائح، فرقها المقتدرون على المتصوفة والدراويش القعود على رصيف أبو العباس. أدى الجميع صلاة العشاء – فى مساء اليوم نفسه – خلف الإمام.
قال الشيخ زين في نبرة متصعبة:
- إنها حكاية قابيل وهابيل. تكررت منذ نزول الإنسان على الأرض، وتظل إلى يوم القيامة.
صارت لربيع أبو العزم مكانة عجز عن بلوغها بقية الفتوات. جاوز سن الشباب، لكن بنيته ظلت على عافيتها. نسبها الناس إلى نزوله المالح فى عز الشتاء، ثم خلوه إلى نفسه في الحديقة المقابلة لسراي رأس التين، يؤدي حركات لتليين عضلاته.
نفى خواصه من معلمى حلقة السمك أن يكون اعتماده إلا على القوة التى منحها له الله، وإن أرجع الكثيرون احتفاظه بقوته إلى كوب دم الترسة يرشفه كل صباح.
قال شيخ الحارة محفوظ سمك:
- تأثير كلام الشيخ زين أقوى من تأثير الشوم في أيدي الفتوات.
وهمس كأنه يخاطب نفسه:
- كلام الشيخ في الحق وشومهم في أذية الخلق!
حدث ما كان يتجنبه حنفي قابيل.
اقتحم عويس الداكر مجلسه في قهوة النجعاوي، يرتدي جلبابًا من الحرير، ويضع على رأسه طاقية بيضاء، تهبط إلى حاجبيه، ودس قدميه في مركوب أصفر، وأصابعه تتلاعب بعصا رفيعة من العاج، لها مقبض على شكل رأس أسد..
بلغ الخصام بينهما حد إشاحة كل منهما نظره - إن التقيا - عن الآخر، وكان حنفي قابيل يضيف بصقة ناحية قدميه.
غالب انفلات أعصابه:
- أنا الداكر!
الوجه قمحى مستدير، تناثرت فيه آثار جدرى قديم. دهن شعره بالفازلين، ومشطه إلى الوراء. العينان باردتان لا تعبران عن شيء، الوجنتان عريضتان. الأنف فى هيئة منقار طائر. الشارب مربع، يتوسط أعلى الشفتين، والجرح غائر فى خده الأيمن، ربما من طعنة سكين. يرتدي الطربوش المغربي والبنش، أو الصديرى القطني والأزرار الكثيرة المتجاورة، أو السروال الأبيض الفضفاض، يضيق عند الكاحلين. يرسم على شفتيه ابتسامة دائمة، تبين فيها العصبية الواضحة. ينطق الجيم معطشة بما يهب تخمينًا أنه من الصعيد. إن تكلم لوى جانب فمه، ولون صوته، وبدّل قسمات وجهه. يشوح - عند سيره - بذراعه، كأنه يتهيأ لنزال.
عرف عنه سرعة التبدل والتحول. يخشى المجهول، يتصرف وفق ما يمليه حدسه وتخمينه، يقتصر تعامله على من يطمئن إليهم.
قال حنفي قابيل في لهجة ذات مغزى:
- هل أنكرت ذلك!؟
رماه بنظرة متحرشة:
- تركت البلد لكلابك يبولون فيها.. حتى اقتحموا بيتي.
أحس قابيل برغبة فى أن يقذف الداكر بكوب الماء الممتلئ أمامه، لكنه سحب يده - بعفوية - وأرخاهما إلى جانبه.
قيل إنه قدم إلى الإسكندرية فرارًا من مطاردة الثأر. أكثر - في أيامه الأولى - من ركوب الترام، يجلس إلى يمين النافذة، أراد أن يلم بالمدينة على نحو ما، يتعرف إلى أحوالها، حدق بالدهشة، يشاهد ما ألفه، وما لم يره في حياته، البحر وعساكر البحرية والسحن الغريبة والملاءات اللف والميادين والشوارع والجوامع والبنايات الهائلة واللافتات والإعلانات ومواقف الأوتوبيس وإشارات المرور.
يظل في جلسته، ينظر - في العودة - إلى الناحية المقابلة.
اختار الإقامة في الرمل لغلبة الأجانب. خشى - في الأحياء الأخرى - عينين تفتشان عن الثأر.
عمل نجارًا للطبالي وكراسي الحمام والأرفف والقباقيب. أول وطأه أرض الفتوات وقفته على باب كازينو كامب شيزار. استعان به أصحاب المحال المجاورة والقريبة، امتد سيره ووقفته إلى بنايات الحي، انتهى إلى ما بين طريق البحر والبنايات يسار قضبان الترام. تنقل بين أبواب الكازينوهات وصالات الغناء والرقص والبارات. إن حدثت مشاجرة، أو علا صوت بما يصعب قبوله، أعاد السكون إلى المكان.
هجر بيته المطل على البحر – فرارًا من توالي النوات – إلى داخل المدينة. صحا من نومه على بلل وبرودة. صاح للمياه التي أغرقت الغرفة. استأجر – في اليوم نفسه – شقة في شارع سوق الطباخين، نقل إليها ما لم تدمره الأمواج. فاضت الأمواج على الساحل. اقتحمت الناحية المقابلة من طريق الكورنيش. أغلقت المحال ومدخل البيوت أبوابها. أخفقت محاولات صد الأمواج، كومات من الحجارة والرمل، ترتطم بها الأمواج، تعلوها، تنداح إلى الضفة المقابلة، تدخل الأكواخ. تبدلت الأحوال بإنشاء الكورنيش الحجري من رأس التين إلى المنتزة. لم يعد المد يتجاوز الشاطئ إلى الأكواخ في ضفة الطريق المقابلة، يقتحمها، يبتلع ما فيها أو يجرفها. عاد الطريق إلى استوائه، وشيدت البنايات الإسمنتية في أماكن الأكواخ، استأجر عويس الداكر شقة تطل واجهتها على البحر.
انتزع حنفي قابيل مبسم النرجيلة من شفتيه في تظاهر بالقلق:
- من يجسر يا أخي؟
- الولد مرعى بيبي.. تعرض لكبرى بناتي في طريق عودتها إلى البيت.
مسح مبسم النرجيلة بباطن يده، وقال في هدوء:
- إن أساء الولد التصرف فهو يستحق اللوم!
طق الغضب في عينيه:
- هذا ما لديك؟!
هز قابيل أصابعه مضمومة:
- أعدك بتوبيخه.
- هذا الكلب لا يعبر ميدان الرمل.
ظل قابيل على هدوئه. رف على فمه ظل ابتسامة:
- مبلغ علمي أن الشاطبي ملك الحكومة.
صرخ الداكر فى صوت محترق:
- وأنا فتوة الحي.
ولوح بسبابته:
- سأمنعه من الحياة نفسها.
تحسس قابيل طرف شاربه، وغمز بعينه:
– لو كانت الاستغاثة بالفتوات تجدي لدعوت كل فتوات الإسكندرية إلى مناصرتي.
كتم الداكر رغبة فى أن يقذفه بكوب الماء الممتلئ أمامه، لكنه سحب يده - بعفوية - وأرخاهما إلى جانبه.
لحس قابيل شاربه المتدلى على شفته بطرف لسانه، واستطرد في صوت أملس، وهو يرفع إصبعه محذرًا:
- لا تسرف في توهم حماية الإنجليز.
اتجه بنظراته إلى الناحية المقابلة، فى إدراك إلى أن ما قاله ضايق الداكر.
دارى الداكر ضيقه بابتسامة:
- أنا مثلك أكره الحكومة وأكره الإنجليز، لكننا – أنا وأنت – عاجزان عن فعل أي شيء!
فهم أنه يومئ إلى تعامله مع قيادة الجيش الإنجليزي.
عرف المكسب الحقيقي في معسكرات الإنجليز برأس التين ومصطفى باشا، يبيع الأطعمة، ويشتري المخلفات. جوال بطاطس آخر ما أهداه له قائد معسكر مصطفى باشا. قبله ممتنًا لاقتصار البطاطس على معسكرات الإنجليز.
- قبضتي تحميني!
طوح قابيل بمبسم النرجيلة ناحيته:
- دافع عن شرفك إذن.. وامنعه من الحي.
وأومأ لمرعي بيبى بنظرة موافقة.
قفز مرعي بيبي أمام الداكر، تحسس - بعفوية - موضع المطواة فى جانب الصديرى. ثم وضع أصابعه على جانبيه. الشعر المهوش، الجبهة العريضة، العينان السوداوان، الحادتان، تحدقان بنظرة مشاكسة، الأنف الواسع المنخارين، الشفتان الممتلئتان، الأسنان البارزة من بين الشفتين، خصلة الشعر الصغيرة في أسفل الذقن، يرتدى فانلة طويلة بكمين طويلين، تعلو سروالّا واسعًا، القدمان الحافيتان دومًا. أمضى - من أجل معلمه - في حجز أقسام البوليس أكثر مما عاش في بيته.
- أتحداك يا عرة الفتوات!
تقوس حاجبا الداكر، وبحلقت عيناه في قابيل بنظرة غاضبة:
– كما أرى.. صار لكتاكيتك أجنحة.
أخفى قابيل انفعاله بابتسامة شاحبة:
– رجالي أسود ينهشون من ينسى نفسه.
تفحص الداكر مرعي بيبي. بدا عليه ارتباك، ما لبث أن تغلب عليه. غلف كلماته بنبرة تحذير:
- لا تكن أداة في يد غيرك.
وسرت ارتعاشة فى خديه:
- لا تحسن الظن بفتوتك.. هو لا يقوى على أذية ذبابة!
واتجه ناحية حنفي قابيل بنظرة متوعدة:
- أنت تخطف أعين الناس بوميض رعودك، لكنك لا تخيفني.
دق قابيل بيده على صدره:
- هل ترى نفسك أهلًا بمنازلتى؟.
النظرة السريعة الى المساعدين المحيطين، وشت برد الفعل. اهتزاز ساقه وشى بالانفعال الذى يغالبه. أحس بما يشبه الخدر يغيبه عن العالم من حوله. تراقص الشر فى عينيه، اقترب فلامست سخونة أنفاسه وجه حنفي قابيل:
- لن أمنحك فرصة وداع أهلك!
حمل كل منهما على الآخر. عاد حنفي قابيل إلى الخلف، وثبّت قدميه فى اتساع، وتحفز للعراك. فاجأه عويس الداكر بسحب قطعة موس من تحت لسانه، لوح بها بين إصبعيه، بطول ذراعه، فى وجهه. نترها بظهر كفه، يجيد العراك بشفرة الحلاقة، لا يستعيد يده إلًا بعد أن ينبجس الدم في وجه من يعاركه. فاجأه حنفي قابيل بإخراج مطواة من جيب جانبي. قرّب نصلها الحاد من عينيه. تحرك في دماغه جان وعفاريت وما لا يعرفه من المخلوقات التى تدفعه إلى رد الأذى. عرته نشوة وهو يقترب بسن المطواة من وجه الداكر، ما انعكس في ملامحه من إمارات الخوف والفزع والتوسل.
اختطف مرعي بيبي عصا النار من يد الرجل، قبل أن يضيء بها مصباح الغاز. قذفها ناحية حنفي قابيل الذي – بالكاد – تفاداها.
تحولت الأعين إلى فوهات براكين، محملة بالنار، صارت الأصابع أيدى أخطبوط، وانتهت القدمان بحوافر وأظلاف يصدر الشرر عن سيرهما فى الطريق. تضرب الموضع في الجسد الذي تصل إليه القبضات والركلات.
أزمع عويس الداكر ألًا يمنح حنفي قابيل شعورًا بالرضا عن الخوف الذي تملكه. جمع قبضته، وهوى بلكمة على جبهته. نفض قابيل رأسه، وأحاط الداكر بذراعيه، وهصره، حتى صعّب عليه التنفس، ثم رفعه إلى أعلى، وطرحه على الأرض، ووقف على صدره. أحاط مؤخرة رأسه بقبضة متقلصة. أدارها نحو الأرض، وضغط حتى انبجس الدم من أنفه وفمه. انتتر الداكر من رقدته، لكمه بآخر قوته في بطنه، أطلق قابيل صرخة مكتومة وهو يحاول تفادى السقوط، عاجله الداكر بضربة قاسية، موجعة، أخذته إلى الأرض. شعر أن الأرض تميد به، وأنه يوشك أن يسقط مغشيًا عليه، غابت المرئيات والأصوات، لم يعد يرى أو يسمع شيئًا، تساند - بعفوية - على كرسى بجانبه، حاول التماسك حتى لا يقع.
أرهقهما العراك، ترنحت قواهما، استندا على الرصيف، متجاورين، لا يقويان على الحركة، اكتفيا بنظرات متبادلة، متعبة، تبين عن الرغبة فى إنهاء ما حدث.
تعددت المعارك على عتبات البيوت، وداخل المقاهي، وفي الحارات والأزقة. طارت الكراسي والدكك والطاولات والمساوق والشوم والقباقيب والجنازير والأحذية. اصطدمت بالرؤوس والأجسام والكلوبات، تداخلت الأعين والأذرع والقبضات والألسنة. شارك النسوة من الأسطح بقذف الحجارة، ودلق الماء المغلي. تشابكت الملامح، اختلطت، شجت الرؤوس، سقطت الأجساد، انبجست الدماء، تعالت الصيحات والصرخات وحشرجة الموت. من يسقط في الزحام، داسته الأقدام دون أن يعى أحد وجوده.
خلا الطريق في الأوقات التالية، ولزم الناس البيوت، وأغلقت الدكاكين والمقاهي أبوابها. حتى المساجد والزوايا قل قاصدوها لأداء الصلاة. زار القطب المرسي خواص مريديه. صحوا يعانون حزنه وإشفاقه لكثرة المعارك في ميادين الحي وشوارعه، بما يؤذي طلاب مدده وشفاعته. من تسموا بالفتوات جاهروا بالفتونة والتخويف والتهديد، تسلطوا على الناس. علت الأدعية إلى الله تعالى فى تعجيل الفرج.
أغضبت الشيخ زين عبد الحي وقفة العساكر والمخبرين والمرشدين في جوانب الميدان، يكتفون بالفرجة، لا يحاولون التدخل لفض العراك. رفع نسخة من القرآن بين المتعاركين.
جذب العساكر عويس الداكر من مقعده في قهوة أنّح:
- أنت تبحث عن المتاعب بمنكاش.
استطرد البكباشي أسامة دويدار والعساكر يدفعونه إلى حجرة الحجز:
- على الداخلية أن تخصص لك حجرة منفردة في التخشيبة، وصفحة منفردة في صفحات الحوادث.
في لهجة متألمة:
– البكباشي أسامة يتهمني بما لا أعرف!
وسع البكباشي أسامة من سلطته. أهمل قواعد الاشتباه والتفتيش والضبط. إذا احتاج المحضر إلى شهود، فإن العساكر يأتون بهم من القهوة القريبة، يثبتون رؤيتهم للواقعة، أو ينكرونها، ما تتلقفه آذانهم في المسافة من القهوة إلى القسم. زرع الخوف في نفوس الفتوات ومساعديهم. والاه بالتعذيب والقهر، حتى أثمر ذلّا يبين في كلماتهم ونظراتهم ووقفاتهم الخاضعة، المستسلمة.
حين أمر مساعد الحكمدار، القائمقام وصفي عبد الكافي، بإيداع عويس الداكر حبس مديرية الأمن، أراد أن يفصل بينه وبين فتوات الأحياء الأخرى. تعالي الضربات على باب الحجرة، والصرخات التي فضحت الخوف، دفعته إلى الأمر بفتح الغرفة. لم يكن الداكر هو الفتوة الذي اعتاد مشاغباته. بدا كأنه مصبوغ بالخوف. عرف أنه يعاني الخوف من الأماكن المغلقة.
عرف القائمقام عبد الكافي من بلاغات المرشدين، وتقارير الأمن، أن الداكر على صلة بكل ما تعانيه المدينة. طرف الخيوط في يده، لا يبين إلّا تحرك صبيانه.
تحدثت المعلومات عن دفع الداكر صبيانه إلى إغلاق الطريق إلى الشاطبي، لا يعبر من الحي، ولا يعبر إليه، إلًا بعد أن يدفع الإتاوة. فسر الداكر ما فعل بحماية أحياء الرمل من أذى البلطجية.
ضج الناس من قسوته، وقسوة أتباعه. كثر صراخهم واستغاثاتهم. تعددت حوادث السبى والسلب والنهب وهدم السرادقات والخيام والأكشاك والغرز، يضرمون فيها النيران، يطاردون المريدين والزوار بالعصي والسنج والجنازير.
البكباشي أسامة دويدار وضع الحدود، حذر من محاولة تجاوزها. كلماته لا تحاول الإقناع، إنما هي أوامر ترفض الأخذ والرد، تصر على التلبية. احتسى رشفات متوالية من كوب الشاى. قال وهو يعيد الكوب إلى الطاولة:
- البلاد محكومة بقوانين الطوارئ.
ولوح – مهددًا – بإصبعه:
- إن واصلت سيرتك فستقضي بقية عمرك في الطور.
في مساء اليوم نفسه، قال عبد الرحيم السبعاوي لجلساء المجيرة:
- معلمنا الذي يخيف الناس، ويخيفنا.. يخاف الظلام!
ثم وهو يلتفت ناحية المدخل:
- هذا ما عرفته من عساكر قسم الجمرك!
استفز جرأة مرعي بيبي. أطلق ضحكة منفعلة، وهو يتذكر ما رآه في الحلم: حنفي قابيل معلقًا على صارى بلانس، متدليًا من الحبل الذى لفه بنفسه حول عنقه.
أمر البكباشي بأفعال تستهدف إدخال الخوف فى النفوس. بث المخبرون على نواصي الشوارع والميادين، وفي المقاهي، والساحات الخالية، يتفحصون، يحدقون، يأخذون بالظن والشبهة.
يتبع
اترك تعليق