ملخص الحلقة الأولى
لم يطلب زاهر العليمي الولاية، فلا شهوة له فيها، إنما تحققت بأعماله التي بلغت حد الكرامات. من فوق مجلسه قنديل دون أسلاك، يُشيع فى المكان ضوءًا كضوء النهار، له سحابة يركبها فى صيف وشتاء، تحمله إلى أى مكان، هو دائم الطيران، والتحليق فى الفضاء. يرى الأماكن البعيدة من وراء الحجب. يلامس بعصاه البحر، فتجمد المياه. يمشي على موج البحر. يمضى إلى الجزيرة يسار خليج الأنفوشي، يبلغها دون أن تعلق بثيابه قطرة ماء.
----------------------------------------------------------
لابد من فعل يتيح للطريقة تأكيد ملامحها.
أوقات الكرامات لا تقتصر على حياة الولي، بل تتواصل منذ ميلاده إلى ما بعد انتهاء العمر. إن لم يعلم الناس بكرامات الولي حين حدوثها، فلأنه اعتبرها نفحات إلهية، عليه أن يكتم البوح بها، قد تغيب - بإذاعتها - قدرته فلا يفيد الناس.
أعلن المعلم جمعة مخلوف موعد مولد ولي الله زاهر العليمي، وطالب بإحيائه. شدد على مريدي الطريقة، فيحرصون على حضور احتفالات المولد. تمازجت أنغام الناي والأرغول والربابة وإيقاع الطبلة والدف والصاجات والشخشيخة، والتصفيق بالأيدي، وتضوع البخور. علا العلم المصري بلونه الأخضر، يتوسطه الهلال والنجوم الثلاث، والبيارق والرايات المختلفة، واللافتات، في زواياها أسماء الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. الأضواء والزينات والأعلام الملونة، بين ضفاف الشوارع وواجهات البيوت والشرفات والنوافذ والمحال والمقاهي، في احتفالات مولد ولي الله، تمامًا كما يحدث في احتفالات يوم عاشوراء، وليلة النصف من شعبان، والإسراء والمعراج، وليلة المولد النبوي، وعيدي الفطر والأضحى، ومولد أبو العباس المرسي، وموالد أولياء الإسكندرية. تتناثر – داخل الساحة - الخيام والسرادقات الصغيرة للأراجوز والسيرك والحواة والقرداتية، وآكلي النيران والزجاج، ومروضي الحيوان، وخيال الظل، وصندوق الدنيا، والبنورة السحرية، والنشان، وألعاب القوة، وحمل الأثقال، فضلًا عن أكشاك الختان والوشم والحلاقة وبيع حلاوة المولد والفول والفلافل والنابت والمكرونة والكبدة والسجق والكباب والكفتة والهريسة والكنافة والفطائر والمهلبية والشاي والقرفة والقهوة والليمونادة والعرقسوس والتمر هندي والكركديه والسوبيا وحب العزيز والفول السوداني وغزل البنات.
بدأ الموكب سيره من ضريح الولي. مضي في طريق الكورنيش إلى انحناءة ميدان أبو العباس. اتجه من جامع السلطان إلى الأولياء القريبين، ثم خلف الميدان نحو شارع الأباصيري، حتى ميدان على تمراز، والميل إلى شارع إسماعيل صبري، ومنه إلى شارع الميدان. اخترق الرفاعية أجسادهم بالسيوف، والوجنات بالإبر الطويلة، والمسلات، ضربوا الصدور بالسلاسل الحديدية، أكلوا الزجاج المجروش، والجمّار، مشوا على المسامير الحادة، دسوا رؤوس الثعابين الحية في الأفواه، ابتلعوا النار، والأعين تتابع من الأسطح والشرفات والنوافذ، ومن فوق الأشجار.
إذا قارب الموكب مسجدًا، أو زاوية، أو مقام ولي، فإنه يوقف كل شيء، وتعلو الأفواه بقراءة الفاتحة، ثم يواصل الموكب سيره حتى جامع الشيخ في نهاية شارع الميدان.
قال المعلم جمعة مخلوف:
- أقمنا المولد ليبقى وليس ليوم واحد.
وبلهجة تعبر عن الارتياح:
- تتسع شهرة الولي بقدر همة مريديه.
ثم وهو يضغط على مخارج الحروف:
- نحن نحتاج إلى مريدين.. لماذا نقتصر على الأنشطة الدينية؟
إذا قارب الموكب مسجدًا، أو زاوية، أو مقام ولي، فإنه يوقف كل شيء، وتعلو الأفواه بقراءة الفاتحة، ثم يواصل الموكب سيره حتى جامع الشيخ في نهاية شارع الميدان.
لكي تصبح المناسبة مولدًا بحق وحقيق، نقل إليه مرجيحة من سوق العيد، في ميدان الخمسة فوانيس.
سكت عن وقفات الباعة في الساحة، والمدقات المفضية إليها، يجتذبون الأرجل بما يحملونه بأيديهم، أو يوضع على الطاولات وعربات اليد من المصاحف وكتب السيرة النبوية والسير الشعبية، وأعداد الدراويش وخرق التصوف والأدعية والابتهالات والأذكار، وباعة الخضر والفاكهة والمسابح ولعب الأطفال والبالونات وأدوات الزينة والساندوتشات والحمص واللب والفول السوداني والترمس والحلوى والعجوة والخوص والسعف والزهور.
يضيف قاصدو الضريح إلى التماسهم بركات الولي، شراء ما يحتاجونه، كما العادة في المساجد عقب صلاة الجمعة.
ابتسم للهمسة بأن الباعة أضافوا مولد الولي زاهر العليمي إلى مواعيد احتفالات مواليد الأولياء والمناسبات الدينية.
وافق موظف المكتبة – ربما لأنه اعتاد رؤيتي – على إعارتي الكتاب. توقعت الرفض، فاشترطت على نفسي إعادة الكتاب في اليوم التالي.
فاجأني الموظف بالقول:
- لا بأس. فقط احرص على الموعد.
ربما لاحظ أني أسحب الكتاب من الرف. أقرأ غلافه، أقلبه، أمر على صفحاته، أقرأ فقرات متباعدة، أطويه، أعيده - بعد الاستيعاب – إلى موضعه.
الكتاب يضم تقويمًا للمجتمع المصري. سنة 1937 تتصل بسنوات سبقتها، وسنوات تالية لها.
تصورت الورقة المطوية داخل الكتاب عنوانًا، أو رسالة، أو ملاحظات عني تسجيلها صاحب الكتاب. قرأت الكلمات:
اللي حبّنا حبّناه .. وصار متاعنــــا متاعـــــــه
واللي كرهنا كرهناه .. يحرم علينا اجتماعه.
هي إذن جمل مقفاة، نقلها الفتوة جمعة مخلوف من قصيدة لابن عروس.
تهامس الناس: من يخلف الولي زاهر العليمي؟
اختلفت الروايات في المكان الذى دفن فيه جمعة مخلوف، لكنها أجمعت على أن السنة الثانية فى الحرب العالمية الثانية هي التى رحل فيها عن الدنيا.
يجهل الناس سيرته.
ليس ثمة معلومات عن طفولته، ولا عن سنى صباه أو شبابه. لا أحد يعرف أصله، ولا العائلة التي ينتسب إليها، وما إذا كان له أسرة، زوجة وأبناء، أم أنه مقطوع من شجرة. يروي المساعدون سيرة حياته كما رواها، وليس كما تتهامس به الأفواه0
قيل إنه قدم إلى الإسكندرية من القاهرة، تصحبه زوجة وثلاثة أبناء. ذلك ما وشت به مفرداته، ولهجته القاهرية. لطول الإقامة، توثقت علاقته بالإسكندرية، تنبه - في دردشة سمر - إلى هتافه - بعفوية - أيوووه، وأحّيه. التذ بالفريسكا، نطق الفلافل – لأشهر – باسم الطعمية، والإمّة، أي قمة الشارع، باسم الناصية، ويهطل المطر فالدنيا "تشتي" بدلًا من القول " تمطر"، والعركة بديلًا للخناقة، والجبن التركي بديلًا للجبن الرومي، الأمر نفسه بالنسبة للبامية الرومي، والسدق بدلًا من السجق. ثم بدّل التسميات. وداخلت اللكنة مفردات: الأربعاء، الشاي، الشربات..
لم يدخل - في روايته - كتّابًا ولا مدرسة، علمه محسن ابن توفيق السنوسي، العطار بالمنشية الصغرى، ما كان يتعلمه في المدرسة، زاد عليه محاولة قراءة لافتات الدكاكين وملصقات الأفلام وكتابات الجدران.
رفض شيخ الصيادين محسب الدردير رواية الفرار من الثأر. هي أسهل الروايات لإخفاء الحقيقة. لابد من إلحاح السؤال.
غالب الناس الحيرة فى المكان الذي يأتى منه، رأوه قادمًا من ميدان المنشية، فنسبوه إلى اللبان، أو العطارين وطالع: كرموز والقبارى والورديان حتى نهايات غرب الإسكندرية، طالعهم فى انحناءة السلسلة فحسبوه مقيمًا فى الرمل.
قالت رواية إنه أنفق عمره في غير طاعة الله. رمى بياضه، فينسى الناس أفعاله الشريرة، ينسبون إليه حتى ما يغيب عن بركات الأولياء.
ذاعت روايات أنه ظل - لسنوات - فتوة مذبح المكس، يتعامل بالساطور. إذا أعمله فى خصومه لا يترك أحدًا منهم حيًا. فرض على الباعة جراية من لحم الضأن وما يتصل به، المخ واللسان والكوارع والعكاوي والموزات والممبار والكرشة والفشّة والحلويات والنفوس والشغت والمخاصي.
يطيل الجلوس على رصيف قهوة نسيم البحر المواجهة لبيت نعمان القاضي. مال إلى الصحبة الطيبة والمؤانسة. يدير الأسطوانة في الفونوغراف بأغنيات عبد الوهاب وأم كلثوم. يحب العذوبة فى تلاوة الشيخ محمد رفعت، لا يتابع الآيات، ولا يحاول فهمها. ترنو نظراته إلى الشرفة الدائرية والنوافذ. يتصور – بتوالي الإظلام والإضاءة – ما يحدث في الغرف المغلقة. يجتذب انتباهه - وراء النافذة - ظل شخص. يخمن إن كان رجلًا أم امرأة، ومعنى حركة ظل الجسد.
كثر تردده على المحاكم وسراي الحقانية لشهادات الزور. صار سحنة مألوفة لدى القضاة والمحامين وسكرتارية المحاكم. حتى المتقاضين ، خشوا اللجوء إليه، فتكشفه المحكمة.
فاجأه أحدهم بالسؤال:
- ألم تشهد من قبل أني لا أمتلك شيئًا؟!.
أزمع - لمجاوزة الخطر - أن يستبدل بالشهادة مهنة أخرى. حفظ القليل من قصار السور، يحاكي قراء قرافة العامود في تلاوتهم آيات القرآن، ويتلو آيات من سورة يس في وداع الموتى. نزل البحر بالسنارة، والطراحة، وشارك الصيادين إلقاء الجرافة، وسحبها - بعد أن تمتلئ - إلى الشاطئ.
افتعل الخناقات كي يكسب عيشه، يدّعى الإيذاء البدني والشتم والاستفزاز وكلمات المعايرة، يدفع مساعده عتريس الفحام، يفتعل شجارًا، لا يلبث أن يتسع، تعلو الشوم والكراسي والصيحات والصرخات.
الخناقة هى الغاية، فلا يلجأ إلى رد الفعل قبل أن يحدث الفعل. يعرض هريدى الجزار اللحم الشمبرى على واجهة الدكان، يبيع لحم البتلو من الثلاجة، فى الداخل. تصدى لحملات التفتيش بافتعال المعارك التى تفسد الهجمات.
أفلح في أن يجعل من نفسه الفتوة الذي يخافه الجميع. يعتز بأنه يرفض التراجع خطوة ليفسح الطريق لآخر. فى يده عصا يطوح بها وهو يمضى بخطوات مهرولة. يلقى السلام، يجلس فى الموضع الذى يختاره خارج القهوة التى تصادفه، أو داخله، لا يشغله إن لم يدعه أحد، ولا من سيدفع الحساب.
صبيانه المبثوثون فى مطلع الدحديرة خلف جامع أبو العباس، والشوارع المتفرعة من الميدان، وفى النوافذ، ومداخل البيوت، وعلى القهاوي، يشمون الأنفاس القريبة، يبلغون جمعة مخلوف باقتراب الخطر، ربما تبادلوا لغة تخصهم، لا يفهم الناس مفرداتها. تنقل بين ثلاثة بيوت، أشرف على بنائها بنفسه، سقط اثنان منها فى حياته.
ضم الولد سميح ابن الخضري يونس السعيد إلى أتباعه، لا يشارك في الخناقات، وإنما يمهد لإنهاء الحفلات بتحطيم الكلوب الكبير وسط السرادق، إشارة البدء لاقتحام الفوضى المكان، تحل الظلمة والصراخ والأنين والحشرجات.
لا أحد يلحظ متى تبدأ الخناقة، أول شيء، يضرب سميح الكلوب الرئيس في السرادق، أو الخيمة، بشومته. تهوي القبضة، تنهال اللكمات، تتطاير الكراسي، يتناثر زجاج الكلوبات، تحل الظلمة، تعلو الشوم، تتحرك الأيدى، تصطدم بالرؤوس والأجسام، يختلط الصراخ والصياح والضربات التي عرفت مواضعها والحشرجات وانبثاق الدم. يندفع الناس داخل البيوت، وفى الشوارع القريبة، يسرع صبيان المقاهي إلى تكويم الكراسى والطاولات فى الداخل، وإغلاق الأبواب. يظل الفتوة واقفًا، أو يدور حول نفسه، مرتين، أو ثلاثًا، ثم يضرب بالشومة فى موضع - يقصده - من الجسد. الشومة جزء من الفتوة، يشعر بدونها أنه ينقصه شيء، إذا فقده فقد لحقه العار الذي يصعب إزالته.
يستعيد قول أبيه:
- أريد أن تكون فتوة.
ثم وهو يحرك الشومة بيده، يوجهها إلى اللاشيء:
- نصيحة أبي: إن لم تتعلم الضرب فتهيأ لتلقي الضربات.
غالب عتريس الفحام تردده:
- لماذا الشومة؟.. رصاصة من مسدس تنهي كل شيء.
في الثانية والعشرين، جسم مدكوك، قصير. حليق الرأس إلا من خصلة كذيل الفرس مدلاة على قفاه، عيناه بنيتان، واسعتان، أنفه حاد، مقوس، شاربه أشبه بخط أسود فوق فمه. يرتدى بنطلونًا قصيرًا، فوقه قميص بنصف كم، مفتوح الصدر على فانلة مثقوبة وفى قدميه حذاء من الكاوتش. عمل عتالًا فى الميناء، يحمل سفن البضائع، ويفرغها. عالمه الطرود والحقائب والشيالين وموظفي الجمارك والبحارة والمسافرين والباعة والنداءات، عمل بعدها فراشًا في إدارة مباحث الأسماك. ثم أمضى وقتًا يلف الطرود في شركة بيع المصنوعات المصرية بميدان محمد علي، قبل أن يضمه جمعة مخلوف إلى مساعديه.
قال جمعة مخلوف بلهجة رافضة:
- الشومة تؤذي، والرصاصة تقتل. القتل باب للجحيم!
لابد أن يكون الفتوة في مستوى قيادة أتباعه، يأمر بثقة في التلبية. المساعد يقتنع بالفتوة فيخلص له، يطيع أوامره، يضع نفسه في خدمته. يختار أتباعه من المقاهي. يتابع، ينصت إلى الكلمات، لكنه يطيل النظر إلى العينين، يتبين المعنى الذي تخفيه، الجرأة والشجاعة ومجاوزة الحرج ورفض الخوف وأتفه التفاصيل. إذا وافق الرجل على الانضمام إلى مساعديه، فإنه يبذل نفسه عونًا للفتوة، لا يضع شروطًا، لا يلح في طلب المقابل.
الفتوة يوجه الضربات، يهوى على الخصم بما يؤذيه، أو يؤلمه، أو يقتله. يضرب الموضع في الجسد الذي تصل إليه ضربات الشومة، وقبضاته، وركلاته. مساعدوه يتلقون الضربات التي تقصده، يواجهونها بسواعد تحمى الوجوه والرءوس، أو تقاطع العصى والشوم. حتى لو لاحت ثغرة ينفذ منها بضرباته إلى جسد الخصم، فإن ذلك شغل الفتوة، هو من تتجه ضرباته إلى الأبدان.
إفطاره المفضل طبق فول بالحمص والزيت الحار، وعشرة أقراص فلافل، وبصل أخضر، وخبز ساخن. في أيام متقاربة، يكسر عشر بيضات نيئة في كوب امتلأ إلى نصفه بالحليب، يجرعه دفعة واحدة. يرتدى جلبابًا سكروتة، يلامس طربوشه حاجبيه الكثيفين، يدس قدميه فى حذاء أجلسيه لامع. قامته الطويلة، جسده الممتلئ، عافيته البادية، صورت له التفوق على بقية الفتوات. حتى الإصبع السادس فى يده اليمنى، لا يجد فيه عيبًا، يعتز بأنه يميزه عن الآخرين.
يرفض إزالة الشارب، وإطالة الذقن. يميل – عند خروجه من البيت – على دكان عبد الشكور الحلاق. يزيل الشعر من وجهه، ويعطره بالكولونيا. جعل دقائق امتثاله لموسى عبد الشكور من مفردات يومه.
لم يكن يمشى دون صحبة أعوانه، يلازمونه كالظلال المترامية من جسده. ترك لمساعديه نسج الحكايات عن خناقاته، أفعال نصرة الغلابة الذين لجأوا إليه، الفتوات الذين أقعدهم، الشوارع التى أغلقها، روى شيخ الحارة محفوظ سمك ما صدقه الناس: يرفع بيديه سيارة من الأرض، يجرع خمسة أكواب من دم الترسة، يرفض تعاطي المسكنات والأدوية. يكتفي – إن آلمه الصداع – بإدارة منديل حول جبهته، ساعة أو أقل، فيزول الألم.
كان يقتسم مع صبيانه ما يحصل عليه من إتاوات، ما يجبونه – باسمه – من التجار وأصحاب الدكاكين. أملى عليه طموحه أن يتسلط على فتوات الأحياء، يجد فى اختلافاتهم، ونزوعه إلى القسوة، ما يدفعه إلى التسلل بأتباعه. شحتة دجيشى أقوى خصومه، ألزمه العيش فى كرموز، لا يغادره، ولا يحاول مد سطوته إلى الأحياء الأخرى. إن وجد فى الفتوة نقطة ضعف، حرص أن ينفذ منها بكل السبل، لا يمنعه عائق.
أكثر أتباعه من أخذ الإتاوات والهدايا من التجار وأهل الحرف والوجهاء. بادروا إلى نهب الدكاكين، واستلاب ما فيها. كبسوا على البيوت، أخذوا ما بها من متاع وأموال.
يكرر القول لأتباعه:
- لا يكفي أن تكون قويًا، المهم أن يشعر الناس بقوتك، يخافونها. اضرب الضعفاء فيخشى بأسك الأقوياء، اقتل الخوف في نفسك بتجاهله. إذا هزمت فلا تيأس، إلق بالهزيمة وراءك، وتهيأ لفرصة تالية. إذا أحسست ارتعاشة في يدك فانسحب حالًا، الفتوة يحرص على شومته، مثلما يحرص الجندي على سلاحه، الضرب للتخويف وليس لإزهاق الروح.
للفتونة أصولها.
لاحظ الشحوب في بشرة عتريس الفحام:
- لا تعود زوجتك على الفعل اليومي.
ثم وهو ينخسه - بمودة - فى بطنه:
- إذا ضعفت قدرتك، فماذا تفعل؟
يحذّر من حمل السيوف والجنازير والمطاوي قرن الغزال والسنج والخناجر والبلط، يستبدلون بها السيوف الخشبية والتروس المقتطعة من الشجر. يأمرهم أن يفعلوا ما ينبغي فعله بالضبط، لا مجال للزيادة أو الحذف. ربما جر التبدّل الصغير نتائج خطيرة. المخالفة تسدها الغرامة المالية، والجنحة قد تودي إلى السجن، أما الجناية فقد توقف على طبلية الإعدام. دائم الاعتزاز بأنه لم يدخل في حياته قسم بوليس، ولا صدر ضده حكم قضائي، وخلت صحيفته الجنائية مما يدينه.
لم يجد الناس فى تعامله ما يثير الغضب، أو الاستياء. وإن حاسبوه – فى نفوسهم – على سكوته عن تصرفات صبيانه. عاثوا في الأموال والممتلكات وأرواح الناس. جردوا الدكاكين مما بها من بضائع، ألقوا كراسي المقاهي وطاولاتها وسط الطريق. توقفت السرقات. لم يبق ما يغري بالسرقة.
واتت الريس فارس جرأة فى جلسته داخل حلقة السمك، عاب على جمعة مخلوف أنه لم يعد قادرًا على منع صبيانه من الخروج على أوامره، يختار الصمت عن أفعالهم حتى لا يعلو صوت أحدهم، أو يواجهه بالعداء، أو يحصل على الإتاوة لنفسه.
أخذ عليه استسلامه لما يفرضه عليه فتوات الأحياء. يعلم ما يدبرون له، لكنه يعجز عن رده. التآمر يحتاج إلى تآمر مماثل، والقوة تتطلب قوة رادعة. ردود أفعاله لا تجاوز عبثية الفعل، الاقتصار على الاستياء والرفض والغضب وغيرها من المشاعر التي لا تدرأ شرًا.
أطلق جمعة مخلوف شخرة محسوبة:
- ليس لأن الناس يحبّون السهر، فلابد أن أفعل مثلهم.
رآه الريس فارس مسترخيًا تحت هيكل قارب مقلوب فى ورش القزق، واصل السير دون أن يلتفت، مال برأسه ناحية النداء، فاجأه جمعة مخلوف بحفنة رمال، قذفها فى وجهه، وانتفض للعراك. اندفع عبد الستار صبي جمعة مخلوف، قبل أن يستكمل جمعة وقفته، ألقى جسده على الريس فارس، اعتلى صدره، أحاط عنقه بقبضتيه، رفعه حتى تواجهت الأعين، ضربه بروسية قاسية، أبعدته عن الدنيا.
أخذ الخوف أسطوات القزق، لم يعودوا إلا بعد أن جرى الريس فارس من رصيف الكورنيش – متعثرًا - إلى الناحية المقابلة.
يتبع
اترك تعليق