" الأسوار"، أولى كتاباتي عن عالم الفتوات. بيومي الداكر الذي غاظه تسبب سيارة المحافظ في توقف المرور. مضى ناحية السيارة، ومد يده من النافذة الخلفية، وكبس طربوش المحافظ على رأسه. جريمة وقت الطوارئ، دفع ثمنها الإقامة – سنوات طويلة – داخل المعتقل.
"بيت الرمـــــل" رواية للكاتب الكبير: محمد جبريل (الجزء الأول)
لماذا شقى هاملت بأشباح ما بعد الموت، في حين أن الحياة نفسها مسكونة بأشباح أشد هولاً؟
تشيخوف
" الأسوار"، أولى كتاباتي عن عالم الفتوات. بيومي الدكر الذي غاظه تسبب سيارة المحافظ في توقف المرور. مضى ناحية السيارة، ومد يده من النافذة الخلفية، وكبس طربوش المحافظ على رأسه. جريمة وقت الطوارئ، دفع ثمنها الإقامة – سنوات طويلة – داخل المعتقل.
لما تنقلت نظرة الملازم أول مدحت هنو بين كفه والأعين المحيطة، عرف أن الغضب دفعه إلى ما لم يتدبره، لكن الصفعة على خد الفتوة الداكر كأنها ضغطة الزر للتخلي عن التردد والتوقع والخوف من السمعة الباطشة، يتنقل بها الداكر في أحياء الإسكندرية. أودعوا قبضاتهم وركلاتهم ما اختزنوه من خوف عن حكايات البدن المسكون بالمردة والعفاريت.
ربما لو أن أبي رفض إلحاحي بالوقوف – ذلك الصباح – في البلكونة المطلة على ميدان " الخمس فوانيس"، ما كنت سألت عن الدنيا العجيبة التي لم أكن أعرفها، ولا عن الأسماء التي ذكرها أبي للمرة الأولى.
حين بدأت في كتابة " رباعية بحري " حاولت أن أقدم عالم الفتوات، تعرفت إليه من خلال روايات قديمة لأبي، وقريبة لأبناء بحري الذين عاشوا الفترة حوالي الحرب العالمية الثانية. وكان فتوات نجيب محفوظ دافعًا لأن أكتب عن فتوات الإسكندرية، رغم اختلاف المكان والزمان، وطبيعة الشخصيات، ومهنهم أيضًا.
" الفتونة " هي العمل الوحيد الذي مارسه فتوات نجيب محفوظ. عاشوا على البلطجة، وفرض الإتاوات، وافتعال المشاجرات، وخوضها لحساب الآخرين، في حين كان لغالبية فتوات الإسكندرية مهنهم التي تكسّبوا منها، أما الفتونة فلم تكن سوى هواية، وسيلة لإثبات الشهامة والنخوة والمروءة والجدعنة. إن مارس الفتوة البلطجة زالت عنه صفة الفتوة.
عمل فتوات نجيب محفوظ في غيبة من السلطة، شغلهم الهـرب والتخفي واللواذ بالأماكن النائية. أما فتوات الإسكندرية فقد كان تحدي السلطة حرصهم الأول. وكانت مشاجراتهم في الساحات والميادين وعلى المقاهي، وأعلنوا الاحتقار لمن جعل الفتونة مهنته. كان أبلغ ما يعتز به حميدو فارس - مثلًا - ورواه الذين فوجئوا بالمشهـد، أنه كبس طربوش المحافظ على رأسه، لسبب تصور أنه يمس كرامته. وأفدت من الحادثة في روايتي " الأسـوار"، بيومي الدكر الذي كبس طربوش مدير المديرية على رأسه.
روى لي أبي كذلك، الكثير عن فتوات الإسكندرية. غالبيتهم - أو أكثرهم شهرة - من بحري، حيث قضيت طفولتي وصباي: حميدو فارس وأبو خطوة والسكران ومحمد الأحمر وسلامة سالبو وكوته وعفيفي القرد وإسماعيل سيد أحمد، وغيرهم ممن تغيرت - بغيابهم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية - صورة الحياة في الإسكندرية، وفي أحيائها الوطنية بخاصة.
تملكتني الفكرة: أن أعرض لتلك الفترة التى خضعت فيها الإسكندرية لسطوة الفتوات.
عرفت من أبي ما كنت أجهله من ماضي الفتوات: الأغنيات تردد أسماء حميدو فارس وأبو خطوة والسكران والنجرو، وغيرهم من فتوات الأحياء، جعلوا للفتونة معناها واعتبارها. يجمعهم الفهم، والمصارحة، والصداقة، ورفض البلطجة والاعتداء بلا سبب. طرأ – لظروف الحرب – ما بدل النفوس، لم يعمل الفتوات لصالح أنفسهم، وإنما عملوا ضد قواعد الإنجليز فى الميناء، ومصطفى باشا ( مصطفى كامل )، بذلوا لذلك قواهم، وصبيانهم، وما يملكون.
ما عرفته من أيام الفتوات على "جوجل" لم يضف إلى ما عرفته من أبي وأصدقائه، وما التقطته من كلمات المترددين على المساجد والمقاهي وقعدات السمر. ربما لأن تلك الأيام لم تعرف الأنستجرام والفيس بوك والواتس أب وتويتر والماسينجر والتيك توك، وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة.
امتلأت غرفتي المطلة على شارع إسماعيل صبري، بالكتب المؤرخة لفترة حوالي الحرب العالمية الثانية، والصحف القديمة، والأسطوانات، والأفلام التي تعيد رواية الأحداث. أبحث في دوائر المعارف والقواميس والدوريات والإنترنت. أصنّف الجرائد والمجلات والوثائق والملفات، أدقق في القوانين والمراسيم والبلاغات ومحاضر البوليس والتقارير السرية وعرائض الدفاع، ونفي التهم، والتماس العفو، أو تخفيف الأحكام، وعقود الملكية وأحكام المواريث وملفات القضايا. أسجل التواريخ. الوثائق الحكومية لا تكذب. إنها مراسيم وقوانين وأحكام وقرارات. ما حدث بالفعل، لاتختلق مكذوبًا، ولا واقعًا من الخيال.
اشتريت من شارع صفية زغلول عدسة مكبرة لقراءة الخطوط الدقيقة، والباهتة. حاولت أن أختزن في ذهني ما أقرأه. أستعيد ما قرأته من حكايات العيارين والشطار في الأزمنة القديمة: الظاهر بيبرس وعلى الزيبق وحجاج الخضري وابن عروس، ومن سير الفتوات في الزمن القريب. قرأت تحقيقات في الأهرام والمصري والمقطم والنبراس ومصر والبروجريه اجبسيان والإجشبيان جازيت والهلال والمصور واللطائف المصورة والاثنين والدنيا ومسامرات الجيب. تفحصت صور الفتوات، ملامحهم، إمارات الشر في أعينهم، ماذا كانوا يرتدون. أهملت النصيحة بأن الصحف المحلية للإعلان، وليست للتغطية الإخبارية. البصير والسفير والسوادي والعهد الجديد، خلت من أخبار الفتوات. لعلها خافت العقاب. أعرف أنها لا تطالع قراء حقيقيين، لكن الأمل ناوشني في أن أقرأ تحقيقًا سربته المصادفة عن تراجم الفتوات. ربما وجدت في خبر صغير، أسفل صفحة داخلية، أسطرًا قليلة تدلني على حقائق غائبة، زمن بكامله من محاولات السيطرة والصراع والعراك. ما أنهي قراءته من الصحف، أكدسه في كومة لصق الحائط.
بدت الإحاطة بالسيرة الحقيقية لفتوة ما مطلبًا صعبًا. تعددت الروايات في تحقيقات الصحف، كل رواية تختلف إلى حد التضاد. تقصر الفتوة على البطولة، أو تنسبه إلى الجريمة. سبق إلى ذلك روايات خارج الإسكندرية: ابن عروس من المطاريد، لكن الحكمة تنطق في رباعياته. نزعت عن أدهم الشرقاوي صفة الإجرام، فهو بطل قاوم الظلم، حتى ابن بمبة، الاسم الحقيقي لبطل روايتي" بوح الأسرار". طال احترافه الشر، قبل أن يجتذبه الخير، وتتبدّل صورته في وجدان الناس، يتحول - في النهاية - إلى ولي، يتردد الناس على ضريحه، طلبًا للشفاعة والمدد.
أزمعت ألّا تقتصر دراستي أيام الفتوات على ما في الأوراق. أردفت بها محاولات للتعرف إلى ما كان في مواضعه. تكتمل الصورة بالرؤية والأسئلة والتخيل.
زرت أمكنة المعارك التي دارت فيها المعارك: ميدان، ساحة، خلاء، رصيف قهوة، داخل بار. أخلي لذهني تصوراته بما جرى. ترددت على المقاهي في بحري والعطارين والقباري والورديان والدخيلة والمكس وكرموز وراغب والباب الجديد وكوم الشقافة وكوم الدكة والحضرة ومحرم بك والشاطبي وكامب شيزار والإبراهيمية وسيدي بشر والسيوف والعوايد والعصافرة والعامرية والمنتزة وأبو قير. أسجل – بعد عودتي إلى البيت – ما أصغيت إليه من حكايات الفتوات. أراجع تعدد الروايات، أنفي ما يصعب تصديقه، وأنه وليد مخيلة الراوي، ما يبدو استطرادًا بلا معنى، أو ثرثرة. أتأمل المعلومات التي تعينني على فهم ما جرى. أدقق، أفصل بين ما يسهل قبوله، وما أرجعه إلى سذاجة الحكي. أريد حقيقة الأشخاص والمواقف. أستكمل - بالقراءة والمراجعة - ما غاب عن الذاكرة من الأحداث. ربما لجأت إلى المخيلة في ربط الحدث بما سبقه ولحقه، تصبح الصورة بلا تشوش يصعّب من قراءتها. مع ذلك فإن الواقع - في تصوري - أشد واقعية من الخيال، ما حفلت به الحياة الحقيقية للفتوات ينفي الحاجة إلى الخيال.
عدت إلى البيت – ليلة – وفي يدي ثروة مهمة: مجلد العام 1939 من مجلة" المصور"، تناثرت في صفحاته مقالات وتحقيقات وأخبار عن فتوات العصر: فؤاد الشامي، عرابي، الصيرفي، إبراهيم عطية، أحمد الطباخة، حسن الأسود، أبو طاجن، أحمد منصور، حافظ الهواري، حسن جاموس، عفيفي القرد، أحمد الخشاب، حنفي حلوف، حسن الخشن، إبراهيم كروم، مرجان السقا، فرج الزيني، عبده الجياشي. عدا نسوة مارسن الفتونة: توحة، عزيزة الفحلة، سكسكة أم سيد.
قتل فؤاد الشامي الراقصة امتثال فهمي، فأنهى بفعلته سني الفتوات في القاهرة.
الأسماء - في الإسكندرية - كثيرة: جمعة مخلوف، حميدو فارس، أبو خطوة، السكران، ربيع أبو العزم، حنفي قابيل، الداكر، عبد الرحيم السبعاوي. أدرس الأصول، وبلد النشأة، والفروع الموزعة في المدن والقرى.
في روايتي" بوح الأسرار" ظل عبده فرج زهران - بعد قضاء فترة السجن - فتوة لقرية السمارة، الفاصلة بين الدقهلية والشرقية. وكان أدهم الشرقاوي فتوة في الوجه البحري، زمن سيطرة الفتوات على أحياء القاهرة والإسكندرية. الروايات تصدر عن رغبة في الفهم، أو إعجاب، أو نفاق، أو رفض. تقترب من الحقيقة، أو تبعد، بقدر المشاعر التي تصدر عنها.
تفحصت – للمرة الأولى – صور شخصيات، كنت أتخيلها. استعدت مواقف الفتوات، لغاتهم الجسدية، تعبيراتهم، كلماتهم. تقمصت الشخصية كما تصورتها، مما سمعته أو قرأته. لم أحدد لنفسي منهجًا ولا نوعية قراءة، كل ما يعرض للمساحة الزمنية، أبحث فيه عن الحقيقة، ما حدث بالفعل.
الاختلافات واضحة.
شيء في داخلي صد الكتابة - لفترة طويلة - عن عبد الرحيم السبعاوي. المذكرات، الذكريات، تعرض لأشخاص يسئ إليهم النشر. أجادوا تهميش أدوارهم فلا يلحظها أحد.
ظني أن السبعاوي لم يكن يحسن القراءة والكتابة. أملى أوراقه على من لا أعرفه، ولا أعرف إن كان قد كتب الكلمات بأمانة التلقي، أم أنه انساق وراء غواية الكلمات.
ربما اخترع – لتجنب المزالق - أحداثًا ليست حقيقية.
تساءلت هل ما أقرأه تعبير عن مشاعر السبعاوي الشخصية، عن فهمه لما حدث، أو أن خيال الكاتب الذي أملى عليه الذكريات جاوز الحقيقة.
" التضخيم" هو أبرز ما استوقفني في المتابعة. لا أدري إن كان ذلك ما أراده الفتوة، أم أنها لغة العرضحالجي الذي تضمنت لغته مفردات الشكاوي والالتماسات والإيماءات المهددة.
إذا بدا لي الموقف غريبًا، ويصعب قبوله، فإني كنت أحاول أن أعبر السنوات، أصل ما أعيشه بصور الماضي، مكانة فتوات الأحياءـ تحديهم السلطة، ومن يبادرهم بالعداء، الأمر والإخضاع والكلمة النافذة.
أطلت تأمل اختلاف الروايات بين ما نسب إلى السبعاوي، وما تناثر في الكتابات والأقوال. عنيت أن أتبين ما وراء الكلمات، إن تحرت الحقيقة، أو اخترعت ما يصعب قبوله. حاولت أن أخضع الواقعة التي تعددت رواياتها لما يسهل تصديقه. تبدو الواقعة غريبة، يصعب تصديقها إن اجتثت من السياق، لكنها تشكل تكوينًا مهمًا في بانورامية المشهد.
لم أتبين الصدق أو نقيضه في رواية عويس الداكر، لكن الكلمات الصادمة - وهي قليلة - دفعتني إلى حذفها. لا يخل حذفها بالمعنى.
عشت البيئة: المعتقدات والتقاليد والعادات والشجاعة والخوف والسيطرة والقهر والتحدي والمعارك والتكافل، وما لاحصر له من المشاعر والمواقف التي تصنع توالي الأيام.
***
اعتدت التردد على مكتبة البلدية بشارع منشة، وكليتي الآداب والحقوق بالشاطبي، ومعهد الخدمة الاجتماعية بالرصافة.
أقلب الصحف والدوريات، أقرأ كل ما يتاح لي الاطلاع عليه. استعرت من المكتبة كتبًا تخلو من سير الفتوات، لكنها تعرض وقائع تلامس الجريمة والبطولة والفعل الغاضب.
تأخذني الأوراق، جريدة، مجلة، محضر بوليس، تستغرقني قراءتها. أتفحص البيانات والملاحظات والمذكرات والتحقيقات الصحفية. أعود إليها بالمراجعة والتدقيق، لا أفلت الهوامش وما بين الأقواس. لعلي أجد في الهوامش ما يدل على جوانب مجهولة أهملها المتن. لا أضيق بكثرة الإحالات والإشارات والإيماءات إلى ما قد يسهل تجاوزه. حتى الرسائل التجارية وجدت فيها ما يدل على صلة الشركات بالفتوات، درءوا الخطر عن منشئاتها في الأوقات الصعبة، حصلوا – بتهديداتهم – على الحقوق التي عجز باعة الأسواق عن تدبيرها. الظاهرة التي يسهل تبينها في خطوط تلك الفترة، أنها كتبت بخط الرقعة. تتشابه في دقتها وجمالها، كأنها جرت بقلم واحد. القليل مما قرأت صعبت قراءته لرداءة خطه، أو للجمل الناقصة، وغير المترابطة.
أسجل – في نوتتي – كل ما يتصل بفتوات الإسكندرية، البداية والأسماء والمعارك حتى صارت أيامهم من الماضي. أصل التاريخ المكتوب بما قبل، وما بعد. أسحب كراسة من الحقيبة الجلدية الصغيرة، أخرج من جيب البنطلون قلم رصاص، أخط به تحت العبارات التي تستوقفني. أجد في كل معلومة ما قد أحتاجه، فلا أهملها. أقلب الروايات المتعددة في ذهني، أحاول تبين أيها أقرب إلى التصديق، ألجأ إلى العدسة المكبّرة لقراءة الأوراق القديمة، الشاحبة الأسطر، وسمتها الصفرة بما يصعّب قراءتها. أجلس إلى جوار نافذة مكتبة البلدية المطلة على شارع منشة. أختطف – بنظرات شاردة – حركة المرور في الشارع الهادئ، وأعود إلى المجلدات أمامي، أقلب صفحاتها، أقرأها. أتفحص الجداول والإحصاءات والبيانات والأرقام والتواريخ، أعود إليها، أتفحص الكلمات طلبًا للمعنى الغائب.
تنقضي الساعات دون أن أرفع رأسي عن الكتاب، الجريدة، المجلة، الدورية. أنسى حتى أن أحاول تبديل وضعي على الكرسي. اعتدت صوت خشخشة الأوراق، ورائحة الخزائن المغلقة.
سرت في الميادين والشوارع والحارات والأزقة، جالست من عاشوا أيام الفتوات، ومن جاءهم خبرها. لم أكن من مرتادي المقاهي. حكايات الفتوات حفزتني للجلوس إلى من عاشوا ذلك الزمن. خالطوهم، شهدوا مشاجراتهم. النوتة الصغيرة في جيب السترة، أو في جيب الجاكتة العلوي. أسجل فيها ما ألتقطه من التراجم والسير والحكايات والأمكنة التي شهدت زمن الفتوات. أصغي إلى أغنية كانت ترافق مواكب المناصرة، أتردد على الأماكن التي دارت فيها اللقاءات والمعارك، وعلى الساحات والخلاء والمساجد والمقاهي والغرز وأقسام البوليس. حاولت قراءة ما تغطت به حوائط غرف الحجز بأقسام البوليس من كتابات وأرقام.
عادة أبناء الإسكندرية أنهم يكتبون نعي الراحلين على ورقة مشابهة في أسطرها لما تنشره صفحات الوفيات بالجرائد اليومية. أراجع قائمة الأقارب والأنسباء والأصهار. ربما لمحت اسمًا سبق لي قراءته في أيام الفتوات. أزور جامع أبو العباس. ألتقط كتابًا من المكتبة الخشبية الصغيرة إلى جوار المنبر، أسند ظهري إلى العمود المقابل، وأقرأ. أقرأ الكتابة على الجدران، ما يستدعيه الخاطر من كلمات وعبارات، تعلق على ما جرى، أو بلا معنى. أكتب الكلمات والتعبيرات كما قرأتها، أو سمعتها.
تجاهلت السؤال الساخر:
- تريد أن تصبح فتوة؟.
الزمن اختلف،
الفتوات من الماضي.
ورث مشيخة الطريقة الأحمدية الشاذلية عن أستاذه المرسي أبو العباس. أوصى ولي الله أن يخلفه زاهر العليمي في فترة حياته، هو الأجدر بخلافته. أراد باختياره أن يترك رجلًا على صورته من حيث مشيخة الطريقة. صاحب مجاهدات وسياحة، يحرص على صفاء العلاقة بينه وبين الذات الإلهية، أواه الله تعالى إلى قربه، آنسه بذكره، أوحشه من الأغيار، يرى الخير فى كل شيء، حتى أنه لا يعرف - في قول سيد النن بائع الصحف بالموازيني - أن لمس النار يحرق.
اعتذر زاهر العليمي – في بداية الأمر - عن قبول المشيخة. قال إنها ليست له، ولا يرى نفسه فيها. أزمع أن يقضي أوقاته في طلب العلم. يقصر جلوسه إلى أهل المعرفة والزهاد والنساك، من نبذوا علم الظاهر، وأخلصوا لعلم الباطن، البحث عن كوامن الحقائق، والتجرد من أسباب الدنيا. فتح الأبواب لتلقى فيض الإلهامات الربانية، والإطلالة على أنهار الجنة.
الأولياء ثلاثمائة، والنجباء سبعة، والأوتاد أربعة، والنقباء عشرة، والعرفاء سبعة، والمختارون ثلاثة، أحدهم القطب الغوث.
المرسي أبو العباس هو هذا القطب الغوث. أجمعت فرق المتصوفة على قطبيته العظمى، لا يماثله ولي في الإسكندرية. قمر في سماء الصوفية، ينير لكل الفرق طرقها.
أشرق نور الحب في قلب زاهر العليمي. اعتزل الناس ليفرغ للعبادة. أقبل بالهمة على الله تعالى، لاذ بربه عن كل ما سواه. تجرد من الأسباب، استبدل غنى الآخرة بثراء الدنيا، لم يعد لحب الدنيا في قلبه موضع. فرغ قلبه عن غير فاطر السموات والأرض. يستغرقه قيام الليل، صوم النهار، تلاوة القرآن، التهدج، قراءة الأوراد والأحزاب والأدعية، إقامة الفرائض والنوافل.
تطهر من الغفلات، ذاق حلاوة الإخلاص، حرص على التقشف وشدة السلوك والتدقيق، والسير في طريق الله تعالى، التصوف والورع والزهادة والصلاة والصوم والتهدج ليلًا، جمع همته في التوجه إلى الله، سكن قلبه إليه، فوض أمره له وحده. امتثل له بالكلية. قصر معظم طعامه على أكل التمر، وشرب اللبن. لا يكاد يتذوق ما فى الطبق، حتى يضع راحته على بطنه، دلالة الاكتفاء.
أكثر من التردد على أضرحة الأولياء ومقاماتهم، يقرأ آيات من القرآن وأدعية، ويتشفع ليعينوه ببركاتهم على مغالبة العصيّ في حياته.
تعلق بالمرسي، سلطان الإسكندرية، منذ تجاور مقامه والمسجد في الساحة الرملية المطلة على المينا الشرقية، تتناثر في المدى بيوت صغيرة وأكواخ.
سماه الناس السلطان، لأنه منع أذى أفراد فى الفرقة الشاذلية لبقية المريدين، وصد غارات أتباع الفرق الأخرى. خصّه الله بالخطوة، وطي الأرض، وله عجائب وكرامات مشهورة.
يدخل زاهر العليمي من الباب الملكي المطل على ميدان الأئمة. يداخله حنين إلى شيء تغيب ملامحه، يشرد في ما يراه، لا يتلفت، يطول جلوسه إلى مقام الولي، السلطان، الشيخ، القطب, الغوث، الوتد، البدل. اعتقد فيه، تعلق بكلامه، ومال إلى محاكاته. تعلم على يديه حسن الإصغاء، وآداب الأخذ والرد، والحرص على الاستيعاب والفهم.
لم يكن يسمح لنفسه بالكلام في حضرة المرسي، ولا يناقشه في الأحكام التي يقضي بها. يحفظ ما سمعه مرة واحدة، يعيده كما سمعه.
القراءة فعله الوحيد، ليفيد من عظات القطب في أمور دنياه وآخرته. رصات الكتب حوله تعلو لصق الجدار، من الأرض إلى السقف. يذاكر مع العلماء والفقهاء والمتنورين من وجهاء الحى. يتمنى أن يقترب – بالعبادة والزهد – من الحضرة الإلهية.
لم يعد يؤدي الصلاة - منفردًا - في البيت، يفضل التوجه إلى الجامع لأداء الصلاة. يأمل - بالألفة - أن يظل في حضرة مقام ولي الله المرسي لا يغادره، لا يطيق فراقه، أو الابتعاد عنه. في باله قول الشاذلي: والله يا أبا العباس فيك ما في الأولياء، وليس في الأولياء ما فيك.
فنيت إرادته فى إرادة القطب.
اعتاد تشفع الناس به ليعينهم الله على جميع مرادهم. يجدون فيه وسيلة إلى الله. يتردد نسوة بحري عليه، يطلبن دعاءه لإدراكهم استجابته عند الله. يتمنين وساطته لالتماس العذر - نتيجة الظروف القاسية - فى أداء النذور. يتشفع لكل من يركب البحر، أو يكتفي بالصيد من فوق صخور الشاطئ، يدلهم على أماكن الوفرة، وإن رفض طلب امرأة أن يكتب عملًا ضد جارة لها، يضعه زوجها الصياد في فم سمكة، يصيدها، ثم يعيدها إلى البحر، واعتذر عن تقاضي مقابل تحفيظ القرآن لشريف ابن المعلم الزردوني: كيف أطلب أجرًا على عبادة أجراها الله؟
يكثر من التردد على مجالس العلم والفتوى ورواية السير وقصص التاريخ. يمضي إلى صمت الخلوة، في حجرة الطابق الأرضي المطلة على شارع الليثي بالعطارين. يتناقل أتباعه من أقواله ما يصنع له مكانة حقيقية بين أولياء الله. ينخرط المريدون في الأذكار والأدعية والابتهالات والمواجيد، تستغرقهم، فيما يعود هو إلى العالم الذي اختاره. يدخل بيته - عقب صلاة العشاء - وفى داخله إحساس بالرضا عن نفسه.
شدد، فلا تقطع خلوته، الخلوة عالمه الخاص، لا يحب أن يشاركه فيه أحد. يوصد باب شقته، لا يستقبل زوارًا، ولا يستجيب للطرقات. حتى القريبين يلتقيهم قبل أداء الصلوات، وبعد انتهائها، وفي درس المغرب. أوقات ما بعد العشاء هي لله وحده، قراءة القرآن وكتب الفقه والمنطق والحديث والتفسير وعلوم اللغة وآدابها والسير والتصوف والتاريخ والأحياء والفلسفة والكلام والفلك والسحر والفراسة. قلّب في المعارف الإلهية، عرف ما غمض من المعارف والعلوم والأسرار.
تغيرت سحنته من كثرة العبادة، الصلاة والصيام وقيام الليل وتلاوة القرآن والأوراد والرقى والتعاويذ وقراءة أحزاب الشاذلي ودلائل الخيرات، ومحاسبة النفس في الدنيا اتقاء الحساب في الآخرة. كف نفسه عما فيه شبهة الحلال والحرام، فلا يقع في المحظور. حصلت له طهارة النفس، قطع العلائق بمن حوله، وما حوله. توجه قلبه نحو التعلق بالنور الإلهي. يغيب عن كل شيء، توسلًا لتحقق وجوده مع الله.
صفا له الوقت، فهو يسمو عن الدنيا، يرنو إلى السماء، يحرص على صفاء العلاقة بينه وبين الذات الإلهية، يأتنس بطاعتها. فتح الله له مغاليق الغيب، يسّر تعرفه إلى ما غمض عن سواه.
ظهر له المرسي - ذات ليلة - في نوم كالصحو. قال في لهجة متأثرة:
- لماذا تهجر ضريحي ومقامي ومسجدي؟
لزم – منذ تلك الليلة - صحن المسجد، وما يتصل به، ترك بيته ودكانه لبيع الكتب القديمة في شارع صلاح الدين. تعلق قلبه بخدمة الإمام والجامع والمقام والتسابيح والابتهالات والدعوات. يرقى إلى السلمة الأخيرة في مئذنة أبو العباس. يطل على الميدان والشوارع المتفرعة والبيوت والبحر والصوارى والأشرعة. حتى الدحديرة خلف المنبر، والميدان، والشوارع المحيطة، جعلها من مسئوليته، ما تعجز حركته عن بلوغه يعهد به إلى درويش من محاسيب السلطان.
إذا أعياه طول الجلسة، تمدد إلى جانب المقام. ربما كنس أرضية المقام بيده، فيه ثواب يطلبه.
أتاه هاتف بصوت ولي الله أبو العباس. طالبه أن يسمى مولوده القادم باسمه، فلما أنجب سمى ابنه المرسي.
اعتاد زيارة الولي له في المنام، النور يضيء من جوانب جسده، يسأل عن أحواله، يرشده إلى خير غمضت عنه عيناه، ينبهه إلى أخطار لا يفطن إليها، يوضح له ما غمض من الأسرار، ينصحه بما يجب فعله، وما يجب إهماله. يدعو له – ولمريديه – بالفلاح، يزيل – بدعوات – ما قد ينشأ من سهو أو خطأ. يملي عليه أفكاره وخواطره وتأملاته وآراءه فى أمور الدين والدنيا. قطع كل ما له صلة بوجوده الدنيوى، يستأنس - في جميع الأوقات - بالله تعالي, عالمه النبوءات والإلهامات ونذر السماء.
حين دخل حضرة الشيخ - فى ذلك اليوم - أفسح له إلى جانبه:
- أنت الآن فى مرتبة الأئمة.
كتم السؤال إن كانت الترقية من أسرار الطريقة، أم أنها قرار من قطب الصوفية؟
تهيأ بلباس شيخ الطريقة، العباءة الـبنية الواسعة، العمامة البيضاء المتعدة الطيات، ودس قدميه فى خف مغربى. تكر أصابع يده مسبحة كثيرة الحبات، ويتمتم بأدعية تذهب الشر، وترجو الخير والمدد.
طوله الفارع يتعبه، يضطر لإحناء رأسه، والنظر - حين يأخذ ويعطى - إلى من ينتهى طول أجسادهم عند مستوى ذقنه، أو أقل.
اتخذ كرسي المبلغ في صحن أبو العباس، الوجه قمحى مستدير، تضيئه نظرة نافذة، العينان واسعتان، شديدتا الصفاء، تظللهما رموش طويلة. الدائرة السوداء الصغيرة - أوسط الجبهة - تشى بكثرة السجود. على رأسه طاقية بيضاء، تخفى أذنه.
يحيط به المريدون في هيئة نصف الدائرة، يعظهم، يحدثهم عن الدروس والعبر، يروي لهم ما يرشدهم إلى صحيح الدين. يبتعد عن الغامض والملغز، يقتصر على ما تسعه أذهان الحضور. تعلو شفتيه ابتسامة ثقة من تأثير كلماته على الأفهام.
زادت أعداد من سلكوا على يديه من المريدين، أنكروا الدنيا، وأقبلوا على تطهير القلوب بالذكر. عرفوا في عظاته حلاوة الفقه، إلى جانب تأثره بما يجرى فى البلد. حفظوا له وقفاته فى وجه حكومات الأقلية، ونصحه لها، ربما زجره على ظلمها.
أظهر حزنه لما دعا الطلبة للخروج فى مظاهرة. فاجأوه بأنهم لا يعرفون كيف تنظم المظاهرة. أهملوا قوله إن لكل شيء فى حياتهم سبب ذا صلة بالسياسة، هى المنبع والمصب.
- كيف يطلب الغوث من الغرق من لا يحاول النجاة بالعوم؟
يقصده الناس للنصح والمشورة. يتوسل النسوة شفاعته، كى يهبهن الله ما يرجون من الدنيا. يتكلم - دون سؤال - عما قدم الزائر من أجله. يعلم دخيلة النفس، والدوافع التي تملي على المرء أقواله وتصرفاته. لا يبدي الزائر دهشته، يعرف عن الشيخ قدرته المذهلة على الحدس والتخمين، وقراءة ما تضمره الملامح الساكنة. يعبر الشيخ عن أسرار مريديه وعواطفهم. يمتلك القدرة على التعرف إلى آلام المريدين. يرفض تقاضي مقابل رقوة اللائذين بعلمه. يعرف أن السماء تراقبه, تحاسبه على حركاته وسكناته.
يطالع مريديه في صلاة الفجر بمحيا يتألق بالنور والسكينة، يدركون جلوسه إلي السلطان المرسي، ينصتون إلى عظاته ونصائحه وتوجيهاته، يلزم ما ورد في الكتاب والسنة، ويحرص أن تكون كلماته صحيحة لغويًا، يكثر من التحميدات فى خطبه وعظاته، لا تقتصر - كما هى العادة - على بداية الكلمات، لكنها تتخلل كلماته من ألفها إلى يائها. تمس المريدين كهرباء الشيخ، تحتويهم نظرات عينيه النفاذة، يرفع المصلون رءوسهم بعفوية، يرنون إلى هالة النور الهائلة، تغطى السقف إلى نهايته. إذا انقطعت الكهرباء، واصل المريدون تلاوتهم القرآن، وقراءتهم الأوراد والأحزاب، فى ضوء الهالة المحيطة برأس شيخ السجادة. ثمة سحابة تلازمه فى سيره ووقفاته، يدعوها فتلبى، يغتسل، أو يتوضأ بمائها. لأن نفسه تطهرت من حب الدنيا، فقد صار من الأبدال، لهم مظاهر أربعة: الصمت والجوع والسهر والعزلة. تحددت حياته في الصلاة، وقراءة القرآن، وإلقاء الدروس والعظات، وحلقات الذكر. يعيش الصمت والجوع والسهر والعزلة، يعرف فضل الأخيار، النجباء، أصحاب الدرك، الأوتاد الأربعة، الإمامين، فالقطب فى مقامه الرفيع.
عرف الناس ما بين السلطان وبينه من رابط روحي. يخاطب السلطان، فيجيبه من داخل ضريحه.
لازم القطب المرسي، أخذ عنه، وتتلمذ على يديه. أحبه المرسي، وقربه إليه، واختصه بأسراره، غمره بما أفاء الله عليه من الإمدادت والنفحات والمكاشفات. أرجع إليه العلماء فضل اعتبار الطريقة الشاذلية طريقة خامسة إلى جانب الطرق الأربعة الرئيسة.
رجع من كل شيء أمر الله بالرجوع عنه. ترك ما نهى السلطان عن فعله. يغادر مجلس القطب وفي نفسه طمأنينة، لأنه علم ما لم يكن يعلم، واطلع على حقائق ذكر الأشياء.
وجد الناس فيه صاحب كرامات خصّه الله بها. أدركوا قوة مدده. يقرأ دخائل النفوس بالنظرة السريعة، يطلع على ما يغيب عن الناس، وما يصعب قوله. يعلم عن أحوالهم ما لا يعرفونه، يفاجئ زواره بأمور خارقة ليست من قدرات البشر. إذا نزل بيتًا، أو حارة، أو مسجدًا، اعتقد الناس أن البركة حلت بالمكان. يرفع يده بالتحية لمن يراهم ولا يرونهم، يعرفون أنهم ملائكة محجوبون إلّا عن الشيخ، تنبثق منه أنوار الولاية، يحيط به ما لا حصر له من ملائكة السماء، يرافقونه فى حله وترحاله. يكلم الطير بلغته، والطير يفهم عنه، ويعبر بصوته عن معان يفهمها الشيخ. يعلو الغيم سماء الإسكندرية، يأمره أن يمطر، فيمطر لوقته. يأمره أن يغيب، فيعود للسماء صفاؤها. سحابة تلازمه فى سيره ووقفاته، يدعوها فتلبى، يغتسل، أو يتوضأ بمائها. تمسي نورًا حيثما سار وقعد. عرف عنه القدرة على تجفيف مياه البحر، والمشى فوقها. أحبه الناس، اعتقدوا فيه. اجتمعوا عليه، أعطوه العهد على أنفسهم بالطاعة.
القطب واسطة بين المريدين وحضرة الله تعالى. يخترق طيف أبو العباس النوراني مجالسهم وحلقات أذكارهم، ذاب فى الصوفية حتى شف، يسير إلى جوار المريدين، لا يرونه، وإن لامسهم، يشعرون بحضوره، دون أن يتبينوا ملامحه. يفترش صحن الجامع فيض من الأنوار، تختفي الظلال.
النقيب صفة أطلقها المريدون على زاهر العليمي، هو الواسطة بين ولى الله وعامة الناس. دعا الله أن يؤيده بالكرامات. الإتيان بخوارق العادات صفة ضرورية لتحقق الولاية. تعددت مسالكه حتى بلغ طريق العارفين، أقصى ما يبلغه الباحث عن اليقين. واتته القدرة على فهم سرائر الحروف والألفاظ والتعبيرات، وعلى التوقع، ومعرفة ما يشغل بال الواقف أمامه. يحيا - معظم اوقاته - في حال الوجد والانجذاب. يستعمل الكلمات الحوشية والغريبة، البعيدة عن أفهام الناس، وعلى غير ما تسعه عقولهم. يتحدث عن معاناة قطع الأودية والفيافي والقفار، محفوفة بمهالك كثيرة. لقي في سعيه عين الحياة، هي العين التي شرب منها الخضر عليه السلام. يتحدث عن تعدد ظهور الخضر والشاذلى والمرسى فى نومه، وعن أشخاص لا يراهم غيره، ربما حاورهم بما تعكسه أسئلته وردوده. يمتلك قدرات النبي سليمان في مخاطبة الحيوان، وتسخيرها، ويرى ما لا يراه الآخرون. يدركون أنه يرى شيئًا يصعب عليهم رؤيته. يستقبل أنوار اليقين إلى حد التماهي، ملأت الأنوار جوانب نفسه، لا يأخذ علمه من المحسوسات، إنما يأخذ من الغيب. يعلم ما لا يعلمه أحد من عالم الملائكة والأرواح في الملكوت، والتنبؤ بما يضمره الآتي من الأيام، وتكشف الوقائع قبل حدوثها، وطي الأرض، وقطع المسافات الطويلة في ومضة خاطفة، وإغماض العين لرؤية الكعبة، والطواف حولها، والتحليق – مثل الطير - في السماء، والمشي على الموج، وسماع الهواتف التي تنصح وتوجه، ومخاطبة الجماد، وظهور الطعام والشراب – في حياته وحياة مريديه – من الغيب، وإحالة اللون الواحد من الطعام ألوانًا متعددة، وملوحة البحر ماء عذبًا، وملء أرحام النساء برقى ودعوات.
لا يدري إن كان السلطان زاره حقيقة، أم أنها رؤيا منامية.
- لماذا لا تصحبني في النزول إلى البحر؟
قال زاهر العليمي:
- لا أحسن العوم.
- أكلمك عن بحر الصوفية وليس عن البحر المالح.
اكتفى بالقول:
- هذا مقام صعب المرتقى.
طالبه أن يؤلف فرقة صوفية، هو شيخها، وأتباعه مريدون:
- حكمة التصوف وتجلياته في الممارسة وليست في الكتب.
وجد في رؤيا المنام أمرًا يجب تلبيته. دعا الأتباع إلى جلسة في الساحة المجاورة لمسجد البوصيري. حدثهم عن زيارة ولي الله، أصغي بأكثر مما تكلم. قال إنه سيأخذ طريقته من تعاليم القطب المرسي. تعددت الآراء بما يعين الفرقة في مواجهة الفرق الأخرى. سماها السلطانية، خليط من فرق الأحمدية الشاذلية والرفاعية، حرص فى طريقته على المقامات الثلاثة: الآداب، الأخلاق، الأحوال. عاب على الفرق أنها بلا قواعد أو أسس تقوم عليها، جعل لفرقته منهاجًا تسير عليه، وخصص لها حضرات وموالد تنفرد بها، وبأورادها وأذكارها. رفض عروضًا من الوجهاء والأعيان وتجار الحي بمساعدة الطريقة:
- والله إني لأستحي أن أسأل من يملك الدنيا.. فكيف أسأل من لا يملك مصيره؟
وحد زي مريدي الطريقة، فهم يرتدون الجلابيب البيضاء والعمائم الزرقاء، يتوسطها طربوش أحمر. من يرتدى لبس الطريقة عليه أن يؤمن بما تدعو إليه، ويؤدى واجباتها. جعل للطريقة أشايرها الخاصة، تختلف في لونها عن ألوان بقية الطرق، فهي زرقاء بلون البحر. العلامة الوحيدة التى تدل على مكانته بين أتباعه، مسبحة هائلة فيروزية اللون، تدلت حول رقبته إلى الركبتين.
يمر المريد بمراحل من الإعداد، قبل أن يتهيأ للمثول بين يدى الشيخ، وأخذ العهد.
العهد ميثاق بين الشيخ والمريد، يلزم المريد بطاعة الشيخ، تالية لحب آل البيت وأولياء الله الصالحين. يؤم الصلاة، يجالس المريدين، يؤدي دور الرسيم في حلقة الذكر. ينبه الذاكرين إلى أن الذكر قوت الأرواح، وسيلة لتطهير القلوب بأسماء الله، وأن الملائكة تشاركهم أداءه. وروح ولي الله تحيط بهم.
أظهر الشيخ زين عبد الحي، إمام جامع نصر الدين، رضاه عن الفرقة الجديدة. عرف عنه عنايته بأمر المتصوفة، رتب لهم - من صندوق النذور - موارد رزق سخية ودائمة.
- بين المتصوفة والفتوات صلة قرابة.
واحتضن العليمي بنظرة ود:
- إنهم امتداد لفرق الفتوة الصوفية في عهد الخليفة الناصر العباسي.
تبدأ حضرة الذكر عقب صلاة الجمعة، بعد ختم صلاة العشاء.
قراءة الفاتحة هي البداية، فآيات من القرآن، فأوراد صوفية، يرددون – بعدها – لا إله إلّا الله. الأقدام ثابتة في وقفتها، والأعين مغمضة، والرؤوس والأيدي تتحرك، تتطوح، والأفواه تردد: الله! الله!
يأخذهم الوجد، تعلو الأصوات بالأذكار والإنشاد والأدعية والابتهالات. يزيد تطوح الرؤوس والأجساد. تعقبها قصائد المديح النبوي، بنغمات متباينة، ثم يعلو الهتاف: مدد، تليه الحركات الذاكرة: التمايل، هز الرؤوس، ترديد اسم الله. ينسق حركات الذكر، يربط بينها، إيقاعها، ارتفاعها وانخفاضها، بنغمة الإنشاد. يتحقق مدد الترقي في الأحوال والأفعال والأقوال. الانسجام من طبقة إلى طبقة، ومن مقام إلى مقام: التوبة أول المقامات، يليها الورع، الزهد، الفقر، التوكل، الرضا. يعتز بمريديه من أولي العزم، أهل الحقيقة والمعرفة، لا ينزلقون مع هوى النفس، ولا ينساقون وراء شهوات الدنيا. لقوا في حياته ما يبتعد عن الأسباب والتجرد، والاشتغال بالعلم الظاهر. يسلكون الطريق على هدى ما يتلقوه من الشيخ من إشارات وإرشادات. حتى شعائر الطريقة ينبغى أن يكون ملمًا بها، دون نقيب يدله على خطواتها.
لا إله إلّا الله هي الجملة الواصلة بين الابتهالات والتسابيح والأدعية.
تبلغ حركة الذكر ذروتها، تسيطر على الذاكرين، تتطوح الرؤوس والأجساد، تعلو صيحات الوجد والابتهالات والتسابيح والإنشاد والتضرع والابتهال والأهازيج الصوفية والمدائح النبوية، وعبارات التشفع بالرسول، والشوق إلى الروضة الشريفة، تدنو طبقة الذكر من الانتهاء، تسكن الحركة، وتهدأ الجوارح، يتهيأ الذاكرون لطبقة ثانية قوامها لفظ الجلالة: الله!
توزعت أوقاته بين الحضرة وحلقة الذكر، والجلوس إلى المريدين، وإلقاء العظات، والخلوة إلى كتاب الله، وكتب الفقه، وسير الرسول والصحابة والتابعين.
حث المريدين على طلب حقائق العزيمة، تأدية الفرائض والشروط والسنن، الاقتصار على اللجوء إلى الله سبحانه: التعرف، التأمل، التعجب، الولع، التشوف، التطلع، التعلق، التتبع، التآلف، الود، الحب، الغرام، الصبابة، المحبة. يحافظ على وضوئه، يعمّر أوقاته بالصلاة، يصلي الفجر بوضوء العشاء، يدفع المغريات بالأدعية والأوراد، وما يرد إلى ذهنه من أحزاب الشاذلي. ربما عكف على قراءة المصحف، يختمه في ليلة واحدة. لا يؤنب المريد، ولا يوبخه، إلا إن جاوز حد الأدب. للحد شواهد واشتراطات. من يواجه اتهامًا ما، يقسم على المصحف فوق ضريح القطب، ينجو بنفسه إن كان صادقًا، ويلحقه الأذى فى جسده، إن حاول الكذب. من يتأخر عن موعد بدء الحضرة، يجد الباب الداخلى موصدًا، يضطر إلى التمدد فى البهو حتى تنفض الحضرة، فينفتح الباب. إذا طُرد مريد من الحضرة، فإنه لا يبرح الباب، يظل فى موضعه، متمنيًا الصفح عما يكون قد أغضب الشيخ. يحرص أن تغلق أبواب الحضرة فى غير أوقات الذكر. يغيظه تأخر مريدين لما بعد انفضاضها، يجعلون من البهو مكانًا للنوم. من يتكرر غيابه أو تأخره، أو تملكته خفّة، نصحه أن يتجه إلى ما يفيده، فهو لا يصلح للسجادة.
طالب مريديه أن يسألوه. لا صحة للقول بأن سؤال المريد نقصان في إيمانه. السؤال يفرضه التفكير، والرغبة في الاستزادة من المعرفة، والاقتناع.
ثمة هاتف يهمس فى أذنه بكلمات، يتأملها، يعيدها أمام مريديه. يكتفي – في معظم الأحيان – بتعبيرات يديه، وإيماءات رأسه، أو بغمغمة مبهمة تعني أشياء مهمة، وإن بدت بغير معنى في تقدير المريدين. ما يراه المريدون غيبوبة، إنما هي سكرة، انجذاب إلى حضرة الله تعالى.
جعل للطريقة نظامها وشعائرها وشاراتها وأعلامها وأورادها وأذكارها وأناشيدها وتقاليدها الظاهرة، انتظمت مجالس الإنشاد، ومحافل الذكر، الغناء والسماع والرقص والوجد والصبابة، يسلك بها الطريق إلى الله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله. لأنه يمتلك قدرة على التواصل، الأخذ والرد. فقد حدد لكل مريد ما ينبغى أن يفعله. لطريقته طقوسها التي تميزها، علم مريديه أداءها، أخلصوا فيها. حدد لهم أورادًا خاصة، يتلونها في أوقات الحضرة. حتى شعائر الطريقة ينبغى أن يكون المريد ملمًا بها، دون نقيب يدله على خطواتها.
شرط على مريديه أن ينزلوا المالح قبل أن يقفوا بين يديه. ماء البحر طاهر، يغسل الذنوب، إضافة إلى أنه أمان من الأمراض، ومناعة للأجسام، فلا تفقد عافيتها. يغطس المريد بكل جسده – قبل أداء العهد - في بحر الأنفوشي، أو المينا الشرقية، يكرر الفعل ثلاث مرات، يأمل زوال كل ما علق بالجسد والنفس من خطايا.
أعطى لكل مريد الحق فى إعلان رأيه. لا يرفع المريد صوته بأكثر مما يليق، للشيخ هيبته ووقاره، ربما ضايقته الأصوات المرتفعة. ينبه إلى أن الملائكة تشارك الذاكرين أداءهم. عاب على مريد حفظ آيات القرآن دون أن يفهم آياتها. في الآيات دروس وعبر، ما يحفل به من العبادات والمعاملات والحدود والأوامر والنواهي والرخص والحساب والثواب والعقاب.
- رعاية مصالح الناس أفضل من تعليم صحة الوضوء.
لم يكن يسأل المريدين عن أحوالهم، بل يسبقهم إلى الحديث عن أشياء، ربما تعمدوا إضمارها. أفكاره عن الناس من تأمل أقوالهم وتصرفاتهم، تعكس ما فى نفوسهم، وما يضمرون.
ينطق بالمغيبات. يخاطب كل واحد بما في نفسه ويكتمه، يضيف إلى كلماته نصائح تسهل المتعسّر، تحذيرات تكشف غموض الأفق. يعين المريدين المحتاجين. يتنقل - بسرعة الخاطر - بين الأمكنة التي يريد زيارتها، لا يشغله قربها أو بعدها عن مجلسه، وما إذا كان بمفرده، أم بصحبة خواصه ومساعديه. ألفوا اختفاءه وهو بينهم، يظلون في أماكنهم، بتيقن أنه يقضي ضرورة، كعيادة مريض، أو إغاثة ملهوف، أو إفتاء بما يزيل غموضًا.
المريدون هم القوة التى تحفظ للفرقة حياتها. لا وقفات لهم بين يدي الشيخ كالموتى بين يدي غاسلهم.
صار للناس فيه معتقد عظيم. تناقلوا حكايات مناقبه ومكاشفاته وبركاته. ما ينتسب إلى أهل الأسرار. يتردد نسوة الحي على مجلسه لتأويل ما يرونه في الأحلام. يرفض أن يقبل الناس يده، وإن أذن لهم بتقبيل طرف ثوبه، وشرب ماء وضوئه، فيه خير، وبرء من أمراض وأوجاع.
قيلت فى مولده روايات تميزه عن ظروف ميلاد أولياء آخرين. حدثت تغيرات كونية لم يتح رؤيتها لبقية الأولياء والناس العاديين، غليان فى مياه البحر تصاعد منه بخار شكل سحبًا قى سماء المينا الشرقية، مذنب مغموس في النيران هوي خارج البوغاز، وميض بروق، قصف رعود، شرر صواعق، هطول أمطار - في عز الصيف - نفى كبار السن أنهم شهدوا مثلها من قبل، تعالى أدعية وابتهالات وتسابيح من مواضع مجهولة.
فسر الشيخ محسن قاعود إمام جامع تربانة ما اقتصرت رؤيته له من متغيرات، بأنه فى تلك اللحظة ولد إمام العصر, وقطب الزمان.
روي أنه أدى فريضة الحج من قبل أن يولد. أتى المخاض أمه فى آخر أيام أدائها مناسك الحج. نذرته المرأة - من يومها - لدينه.
تعددت الروايات عن الأماكن التي التقاه فيها مريدوه دون فواصل زمنية: خلف جامع المرسي، بعد أن ألقى السلام في جلسته قبالة مقام السلطان، تشغله قراءات وتهدجات، يلوح بيده في نافذة الترام عند انحناءة شارع قصر رأس التين. اقتحم الارتباك، ولعله الخوف، المعلم سعدون جادو لما أتاه صوت الشيخ زاهر العليمي في الهاتف. هو صوت الشيخ الذي يشي استرخاؤه أمام النرجيلة – في قهوة فاروق - بما قضاه من وقت.
غاب القلب عما حوله من أحوال الخلق. عرف الدنيا، فأعرض عنها، زهد فيها. صرف نفسه عن شواغلها. جرد قلبه عما سوى الله. يسعى كي يبلغ عتبات خدمة الذات الإلهية، ويجلس على بساط القرب، ما يجب أن يفعله الأولياء. تلقى الطريق، وسلك مقاماته السبع، حتى مقام المشيخة.
عرف شيوخ الفرق أنه من الأبدال، لهم مظاهر أربعة: الصمت والجوع والسهر والعزلة. صار إمامًا لأهل الذوق والعشق، أهل المجاهدة والأوراد. عالمه الملاذ الأعلى والأنبياء والخضر والأولياء والملائكة والجن والأبدال والأقطاب والنقباء والخير والحنان والعطف والمحبة والتكافل والمودة والإيثار والخضوع والامتثال والتواضع والحلم والصبر والأوراد والأذكار والشريعة والحقيقة وريح الجنة والحور العين والولدان.
العرش الإلهى لا يقتصر وجوده على السماء والمسجد والحضرة والذكر والأوراد. لكنه فى الحياة من حولنا، في كل شيء، حتى في الخلية، أو الذرة، المتناهية الصغر.
نفض عن نفسه مشاعر الحسد والحقد والطمع والشره والغل وسوء الظن. تطهر من كل قلبه. راعى أنفاسه في الشهيق والزفير.
ظهرت على يديه خوارق أذهلت الأفهام.
لم يطلب الولاية، فلا شهوة له فيها، إنما تحققت بأعماله التي بلغت حد الكرامات. من فوق مجلسه قنديل دون أسلاك، يُشيع فى المكان ضوءًا كضوء النهار، له سحابة يركبها فى صيف وشتاء، تحمله إلى أى مكان، هو دائم الطيران، والتحليق فى الفضاء. يرى الأماكن البعيدة من وراء الحجب. يلامس بعصاه البحر، فتجمد المياه. يمشي على موج البحر. يمضى إلى الجزيرة يسار خليج الأنفوشي، يبلغها دون أن تعلق بثيابه قطرة ماء.
يعرف المريدون موضعه في الخلاء من الضوء الذي يصدر عن المسبحة في يده، يكتمون لهفتهم للقرب منه، فلا يشغلونه عن العبادة. له حضور قوي، يسيطر به على مريديه. تمسهم كهرباء الشيخ، تحتويهم نظراته النفاذة. بريق عينيه يدفع المريدين إلى التحول بنظراتهم. يمتثلون لأوامره بلا تأفف ولا تذمر، يلزمونه أينما يتنقل بين المساجد والخلوات والحضرات، يدخلون في طاعته، يحرصون على الشارة والوشاح والطاقية البيضاء. يعطونه العهد على أنفسهم بالطاعة لله ورسوله.
في نبرة متأثرة، قال المعلم خليل الشيمي العلاف أسفل شرفة زاوية جميعي:
- اعتدنا طواف الشيخ حول البيت الحرام، ونحن في حضرته، يأخذه الشرود دقائق، فنعرف أنه كان في الكعبة.
يحلق - بلا جناحين - في سماوات لا نهاية لها. يصلّي - في أوقات يختارها – في الكعبة الشريفة، يسحب السجادة الصغيرة من تحت إبطه، يضعها في أي مكان، ووجهه شطر الكعبة، ويؤدي الصلاة. قيل إنه يطوي بالسجادة الأرض.
تلقى الإشارة من المرسي أن يجعل من زاوية الأعرج حضرة لطريقته. بلا مئذنة، فهي ليست مسجدًا اسمه باسم أحد الأولياء. ينسب الطريقة – باسمها – إلى الزاوية.
أدرك المريدون تأهبه للرحيل، حين لزم مجلسه عقب انفضاض الحضرة. جال في وجوههم بنظرة مشفقة، ثم أوصاهم بأن تظل أخوتهم على النحو الذي هي عليه، ويحرصوا على الكلمة السواء.
غادرهم نفسًا تمتلئ بمحبة الله، طار قلبه إلى الله اشتياقًا. ينتظر الموت في شوق الحبيب إلى حبيبه. قيل إن الملائكة شاركت في الاغتراف من ماء غسله. تهافت المريدون على ماء الغسل، يدعكون الليفة بأجسامهم, طلبًا للتطهر والبرء من الذنوب. تضوع الماء برائحة أطيب من المسك.
تحير الناس في المكان الذي اختاره ولي الله لمرقده النهائي.
انسلت نعشه من الجنازة، طار فوق رؤوس المشيعين، وفوق الشوارع، والواقفين داخل الدكاكين، وعلى الأرصفة، والمطلين من النوافذ والشرفات. تعالت من حوله - مختلطة - أصوات طيور لا ترى.
أراد الناس أن تمضى الجنازة إلى جامع الشيخ، تؤدى الصلاة على الجثمان، ثم تواصل سيرها إلى مقابر العامود، لكن النعش تحرك على أكتاف حامليه بما أربك خطواتهم. تنقل بمشيعيه بين المساجد والزوايا والمقامات والأضرحة. حتى المزارات في الحارات الضيقة والأزقة، حرص أن يطوف عليها. أعيت الناس الحيل، أخلوا للنعش طريقه، أجبر المشيعين على السير فى هرولة إلى ميدان المنشية، ومنه إلى طريق الكورنيش. مضت الجنازة حتى مستشفى الملكة نازلي للأطفال، مالت ناحية ميدان أبو العباس. لما انطلق في اتجاه الأنفوشي، خف عليهم حمله، وتسارعت خطواتهم. حتى استقر النعش على أرض خلاء تطل على البحر، كأنها الساحة لقلعة قايتباي.
قال جمعة مخلوف:
- سيدي زاهر العليمي هو الذي اختار مرقده. من يؤمنون بولايته عليهم أن يمتثلوا لإرادته.
روى عن الولى، وما جرى بينهما فى أثناء نومه، وطلبه منه أن يدفنه فى المكان الذي حدده.
دفن ولي الله زاهر العليمي في الأرض الخلاء، بين المينا الشرقية وخليج الأنفوشي.
عند إنزاله القبر، علا صوته بحيث سمعه الواقفون في آخر الصفوف:
- رب أنزلني منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين.
اختار البحر موضعًا لضريحه، حتى تشمل مناقبه اليابسة والبحر، من يحيون في المدينة، ومن يغادرونها سعيًا للقمة العيش. نبتت في موضع القبر - في اليوم التالي - شجرة صغيرة، تضخمت بما أذهل الأعين. صارت شجرة تين هائلة، شكلت أغصانها وأوراقها ظلة تحمي زائرى القبر من لسعة الشمس. تتعالى من فوق الضريح - مختلطة - أصوات طيور لا ترى.
تيقن الناس من انتساب الشيخ إلى أهل الخطوة. مالوا إلى الاعتقاد فيه، تحدثوا عن علو مقامه، وأنه من أصحاب الكشف، وله في ديوان الأولياء مرتبة رفيعة. عرفوا عنه خصوصية الكرامة، واستجابة الدعوة. والعصمة من الخطأ.
ظهر الولى زاهر العليمي فى نوم جمعة مخلوف، كلمه عن إعراض الناس عن زيارة ضريحه. طالبه أن يبني على قبره مزارًا وقبة بقصد زيارة المريدين وعامة الناس.
من له حاجة يقصد ضريح ولي الله زاهر العليمي، يذكرها، فيقضيها له، شفاعته لا ترد. انضم إلى الطريقة عدد كبير من المريدين والتابعين. يحركهم الشوق إلى التردد على ضريح الولى ومقامه، نسبوا إليه الكثير من الكرامات والمناقب والخوارق والمعجزات. شهدوا له بالولاية، اعتقدوا فيه بما لم يحدث مع أحد الأولياء من قبل. عرفوا أنه يملك التصرف فى كل شيء، لولا خوف الكفر لأيقنوا أنه يقول للشيء: كن، فيكون.
أرسلوا له النذور والهدايا، قصدوا ضريحه للزيارة، والتبرك، ازدحموا على بابه، يتمسحون بأعتاب المقام المغطى بالحرير الأخضر، المطرز بالآيات القرآنية والأدعية، يتشفعون ببركات الوليّ، يضيئون الشموع، يحرقون البخور. يتلون الأدعية والرقى والتعاويذ.
توالت الأفكار، فغابت الرغبة في النوم.
سحبت من المكتبة مجلدًا من مجلة "اللطائف المصورة" يضم تحقيقات وصورًا لمصر العشرينيات في القرن العشرين.
"رباعية بحري" ساحة مارس فيها فتوات الإسكندرية، وفتوات بحري بخاصة، صراعاتهم ومعاركهم ومواقفهم التي تتضاد بين النبالة والبلطجة. ثمة حميدو فارس والنجرو والسكران وأبو خطوة، وأسماء أخرى فرضتها تطورات الأحداث. على الطاولة الصغيرة - إلى جوار المكتب - الكثير من التقارير والدراسات والتقارير والمذكرات والذكريات والرسائل وقصاصات الصحف. تأخذني القراءة وجمع المعلومات وإعداد البطاقات والتبويب والتقديم والتأخير والفهرسة.
البداية – كما يروي السارد في روايتي" البوصيرى" ( رباعية بحرى) - لا يذكرها أحد. ربما قبل الحرب العالمية الثانية، وربما بعد انتهاء الحرب مباشرة. طافت المعارك بالأحياء، لترسو - في كل حي - على بر الفتوة الواحد.
حين خلت الدنيا من ولي الله زاهر العليمي انكسفت الشمس، انخسف القمر، انطفأت النجوم، غابت الشهب فى أماكن لا ترى، حلت الظلمة، زالت الحكمة والكلمة السواء.
تأثر مريدوه كثيرًا، أحسوا بحاجتهم إليه، ينقصهم ما يستكمله. بدت لهم الطرق شاقة، أو مسدودة.
عمت صلاته وهداياه - بواسطة مريديه - أهل بحري. وضع جمعة مخلوف زيرًا قبالة الضريح، طلب من السقا هريدي أن يزوده – كل صباح – بالماء الذى ينقله من الحنفية العمومية بالأنفوشي. تغطت التكاليف بالهبات النقدية من أعضاء الطريقة، كل بقدر تيسر أحواله، تبرع جمعة براتب من الحصير والشموع، ورواتب لخدم يعنون بالضريح، ويخدمون زائريه. أوقف عقارين تكفي غلتهما للإنفاق على خدمة الضريح.
أذنت وزارة الأوقاف بصندوق نذور. ثبت الصندوق في ضلفة الباب، أيمن الداخل إلى الضريح. وثمة النذور من العجول والأبقار والخراف.
أدرك جمعة مخلوف أن اقتصار مناقب الولي على مريدي الطريقة سيحد مكانتها، فلا تجاوز بحري. ابتعاد الضريح عن سكنى الناس ربما يصرفهم عن زيارته. عهد إلى المريدين أن يشيعوا بين الناس كرامات الولي ومكاشفاته، يحفزون الناس للتردد على الضريح، فتحصل لهم بركة ولي الله. المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء.
أحاط الضريح بمقصورة نحاسية، كما في أضرحة ومقامات الأولياء. تكتفي الأعين بالنظر، والأفواه بالدعوات، ولا تلامسه الأيدي.
يفد إلى الحضرة مئات العباد والزهاد والأقطاب والأوتاد والأولياء الصالحين، يعطون أسماعهم، ولا يعطون أبصارهم، يراهم الأقطاب العظام، ولا يرونهم. يبدأ المديح، الإنشاد، بالحكي عن الرسول، نشأته، نزول الوحي، الدعوة، تعقبه سير آل البيت والصحابة والتابعين، فأولياء الله الأقطاب: المرسي وياقوت العرش والبوصيري والطرطوشي ونصر الدين. لن يغضبهم أن يحظى ولي الله زاهر العليمي بما تؤهله له مكانته من المديح والإنشاد الديني.
حتى لا يحول امتزاج الرمل والتراب في أرضية الضريح دون تلبية قاصديه بطلب الغوث، وحتى لا تضيق الساحة المقابلة للضريح عن استيعاب زائريه، ردمت أجزاء من البحر، أزيلت قطع الحجارة والزبالة. فاتسعت مساحة الأرض. وصلت الساحة والشوارع المحيطة بمدقات ترابية، فتسهل الزيارة.
تحولت الساحة – بتوالي الأيام – إلى سوق للعيد، تبلغ الجرف المطل على البحر.
تقاطر الناس على ضريح الولي من أحياء الإسكندرية، ومن مدن قريبة وبعيدة، يطلبون البركة والشفاعة والنصفة والمدد والاستجارة والاستخارة، أو قراءة سورة يس على الظالمين.
نسبوا إلى صاحب المقام كرامات ومجاهدات. أوقدوا القناديل والشموع، قبلوا الأعتاب، رددوا الأدعية والرجوات، يرجون الشفاعة التي لا ترد، وجلب البركة، وشفاء المرضى، وقضاء الحاجات، ودرء الحسد، وإخراج الجن من الجسد، وعلاج المرضى، بالفاتحة، وسورة تبارك، وآيات القرآن، وبالأدوية الشعبية والتوابل والعطور والرقى والتعاويذ والتمائم والأحجبة، وغيرها من الأفعال التي خص بها الله أولياءه.
أشاعوا قدرته على علاج أمراض عجز الأطباء عن مداواتها في العيادات والمستوصفات والمراكز الطبية. لكل ولي تخصصه العلاجي. ولي الله زاهر العليمي يعالج – بإذن الله – كل ما يبتلى به الإنسان من أمراض، حتى ما تغيب تأثيراته الظاهرة، أو يستعصى تشخيصه. يدس يده فى جيب السيالة، ينظر المريض إلى حجر الياقوت، يزول ما يعانيه من متاعب وآلام. يشفى من أمراض الشيخوخة، يطيل عمر المريض حتى ينسى الموت، ويشفي من العمى، والشلل، وأزمات النفس، وسيطرة الجان، والتداوي من الأمراض بالحجارة الكريمة، وجلب الحظ، والبرء من تأثيرات العين الحاسدة، والتنبه إلى مكائد الأعداء، وإطلاق البخور لتطهير الأجساد من الأرواح الشريرة، وطرد الشياطين.
طالت وقفة صياد السنارة ياقوت أبو طالب على مكعبات المصدات بالمينا الشرقية. يفضل الصيد قبل الغروب على المكعبات الإسمنتية قبالة تمثال الخديو إسماعيل، هى الساعات المناسبة لوفرة السمك. يهم الصياد أن يجد موضعًا مناسبًا للصيد، وموعدًا مناسبًا ليلقى طراحته، السنارة مدلاة من يده المسترخية على فخذه، يتوقع الجذبة الواشية بالصيد. ينفد الطعم، يأخذ سمكة صغيرة من المشنة، يجعلها طعمًا، يشبكه فى السنارة، يقذف بها داخل الموج.
هتف بالتوسل:
- بركاتك يا سيدي العليمي.
تراقصت – في اللحظة التالية – أنواع بلا حصر من أسماك مالح الإسكندرية، وأسماك بحار أخرى.
أدرك الرجل ما حدث، حين أبصر الولي زاهر العليمي واقفًا بثيابه في موضع قريب من البحر، تعلو شفتيه ابتسامة محبة.
قال وهو يشير إلى نفسه:
- أعانني الله كي أغيثك دون أن أبدّل ملابسي.
فرد عباءته على كتفيه، تحولت إلى جناحين حلقا في السماء.
من يومها، عرف الناس أن ولي الله زاهر العليمي مخلوق، بشر، لكنه يحمل من صفات الحيوان والطير ومخلوقات البحر.
في ناحية المكس، أشار إلى أسماك نافقة فوق الموج:
- قتلها الديناميت. حرمت البحر من أسماكه، ولم تفد منها بشيء!.
تمتم بأدعية، فتراقصت الأسماك في مواضعها، بما أذهل الأعين المتابعة.
قسا المرض على رشدي العتر الموظف بمصلحة المواني والمنائر. حار في تردده على الأطباء ومقامات الأولياء. عرف أنه يعيش أيامه الأخيرة، المرض الذي يعانيه غير قابل للشفاء، وما بقي من حياة قليل. تنقلت زوجته بين المزارات، تلتمس الشفاعة للبرء من المرض، تعد بالنذور.
زاره زاهر العليمي في نومه.
أعطاه قارورة صغيرةـ يتعاطى قطرات منها فيشفى بإذن الله. لم يقدم ولي الله نفسه، ولا كان رشدي العتر رآه من قبل، لكنه عرفه بمشاعر إيمانية، تأكدت بزوال المرض.
اختصر حمدي حسونة، الموظف بشون استاني طريقه بإرشاد من صادفه في الطريق. مال إلى الشارع الترابي الواصل بين صحراء المتراس والورديان. تحيفته الوحدة والوحشة بين الخلاء والمقابر والصمت السادر، كأنه في دنيا غير الدنيا، ولا إشارة تدله على صواب الاتجاه.
قاوم الدمع وهو يحدق النظر في نهايات الأفق، البيوت البعيدة تبدو كوهم سرابي. دار حول نفسه وهم بالعودة، لكن احتواء الخلاء أنساه المكان، غلبه شعور كالقهر.
لا يدري من أين جاء الرجل ذو اللحية المنسدلة على الصدر، والجبة والقفطان، ولا كيف، كأنه طلع من باطن الأرض.
- توكل على الله وسلم بقضائه.
وفي لهجة آمرة:
- سر خلفي.
أبطأ الرجل من خطواته، فأدرك حمدي حسونة أنه يستحثه على اللحاق به.
لم يحاول تبين ملامح الرجل، وما إذا كان في عرضه ما يتيح النجاة، أو يخيف. تبعه بخطوات ملهوفة، اخترقا الخلاء والمقابر، حتى طالعه ما استطاع تمييزه.
- أنت في الورديان.
وبنبرة مشفقة:
- إذا واجهتك مشكلات أخرى فاذكر اسم زاهر العليمي.
رنا حمدي حسونة ناحية الرجل بنظرة امتنان. فاجأه خلو المكان من كل إنسان، وكل ما قد تراه العين.
حذّر ملك الخضيري في منام كالصحو من سوء العاقبة. صحت ملهوفة، لتطرد بيدها عدوًا مجهولًا. أضمرت التوبة في نفسها، حتى أتاح لها الشيخ زين عبد الحي أن تعلن ما كانت تضمره. استبدلت العباءة السوداء والحجاب بالملاءة اللف والبرقع، قصدت مزارات أولياء الله الصالحين، أطالت التوقف أمام المزارات التى يستحب فيها الدعاء، مقامات أولياء الله عثمان الشرنوبي، محمد الرحال، جابر الأنصاري، محمد العجمي، أحمد المتيم، محمد المغربي، إبراهيم عبد الباعث. أنفقت من حصيلة أيامها في كوم بكير على بناء مسجد في الرمل. لم تبدأ في البناء إلّا بعد أن جمعت ما أتاح لها العيش – بقية العمر – في التوبة.
نصحها الهاتف في نومها أن تستكمل توبتها بالحج إلى بيت الله. زارت مقام المرسي للاستئذان في السفر إلى البيت الحرام، دعت ليهبها القطب من النفحات الربانية ما ييسر لها أداء فريضة الحج.
قال إسماعيل عودة، فراش مدرسة راتب الابتدائية، للدهشة المتسائلة في عيني المعلم جمعة مخلوف:
- تزوجتها لأكسب ثوابًا.
- هل رأيتها بائرة؟!
- أرادت محرمًا لأداء فريضة الحج.
تهرأت شبكة صياد الطراحة طاطا عبد ربه، فصعب عليه الصيد.
تناهى الصوت من الفضاء المحيط:
- في البحر ما يملأ شبكة الجرافة وليت الطراحة وحدها. المشكلة في تكاثر الثقوب.
توزعت نظرته بين الصوت الهامس، والشبكة التي بدت كالجديدة، عرف أن ولي الله وصل غزلها، ورتق ثقوبها.
برقت عيناه باهتمام:
- هل أضيق ثقوب الطراحة؟
- إن ضيقتها فأنت تجرف الزريعة.
وفي لهجة حاسمة:
- رتق الغزل يكفي.
هتف طاطا عبد ربه بالقول: يا سبحان الله، وهو يسحب الطراحة محملة بأسماك متراقصة، متنوعة الأنواع.
لندرة الأسماك عرض مسئولو متحف الأحياء المائية اقتناءها، رأتها – للمرة الأولى – أعين الزوار.
زادت نوة الفيضة الكبرى من تأثيراتها. تعالت الأمواج، فابتلعت ما صادفها من عشش الصيادين. امتدت إلى داخل المدينة، فحاصرتها بالخطر. ارتفعت الأصوات بطلب الغوث. بادر ولي الله إلى الوقوف على صخرة في قلب البحر، وقال:
- يا أيتها النوة، هدّئي من ريحك القاسية.
سكنت الريح حالًا.
تألم ولي الله من الممارسات السحرية لعبد المعبود خادم زاوية جميعي. الموجودات السفلية طوع إرادته وأمره. تقتصر أفعالها الشائنة على أذية الناس. السحر الأسود لن يتاح له العيش في وجود زاهر العليمي. أغلق عبد المعبود عليه – من يومها- باب بيته، واختفى عن الأعين.
قصده مسعد بخيت فتوة الشلالات بعد أن أنهى فترة السجن، وعده أن تكون سرقة قصر الأرمني كادريان بشارع البطالسة آخر جرائمه. قصر تحركه على المنطقة ما بين الشاطئ وداخل المدينة، يفرض الإتاوات على قاصديها من طالبي الفسحة والمتعة. حتى حاملات الغلقان، المناديات: أدق وأطاهر، يدفعن نسبة مما يحصلن عليه من قراءة كف اليد، والتنبؤ بالمستقبل.
تحدث عن موت أكبر أبنائه في مشاجرة. طلب من الولي أن يعينه على استعادة نفسه، غسلها بدعواته، فلا يعود إلى ما كان عليه.
جاوز الولي مجرد الدعاء، فزكّى الرجل للعمل في قهوة عبد الكريم بميدان سيدي جابر. قال المعلم جمعة مخلوف - تعليقًا على التزكية - بأن ولي الله زاهر العليمي مثل البوغاز للقادمين إلى الإسكندرية.
طلب الولي طبق بصارة في مطعم البغدادي بشارع عبد المنعم. أشاح بيده رفضًا للاعتذار بأن الطعام يقتصر على الفول والفلافل.
أقبل على طبق الفول:
- هذه بصارة بإذن الله.
أهمل النظرات الداهشة للبصارة التي توسطت الطاولة بديلًا للفول.
طافت المرأة بمقامات الأولياء، تطلب المدد والغوث. لكثرة ما تنقلت بين البيوت، عرفت ما يطلبه الرجال من امرأة مثلها. تمنت الحل والربط وكرامات الأولياء. حتى مقام العدوي أول شارع صفر باشا، أضاءت فوقه شمعة كبيرة، وتوسلت إليه.
الولي - مثل أولياء آخرين - لم يتدخل في أمرها، فكادت تسلم نفسها إلى اليأس:
- إذا كنت قد فعلت ما تؤاخذني عليه، فلماذا لم تساعدني؟
قال الولي:
– من لا يعاني لا يشعر بمتاعب الآخرين.
التقى محروس عبد الباري، مساعد طلبة الأنور فتوة باكوس، أول شارع السكة الجديدة. ابتدره بالقول:
- لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلَا بالحق.
بربشت عينا الرجل. يسمونه عدو الشمس. رموش عينيه الصفراء تصعّب عليه مواجهة ضوء النهار. استولى عليه الخوف، أعوزته الكلمات ليخفي ما يعانيه. أدرك أن الولي عرف بتدبيره التخلص من عاشور حميدة شيخ الصيادين. راجع نفسه، وما كان قد اعتزمه، فأدرك خطأ تدبيره، ما أملاه الهوى والنفس والشيطان. كتب له مختار الليثي مؤذن جامع القباري تعويذة سحرية، دسها تحت عتبة بيته. أشفق على الشاب من غواية الشيطان، مسّه بما بدّل يقينه.
قيل إنه رأى ملك الموت عند دخوله على فؤاد قناوي بائع الخضار في سوق غربال. أشفق على المريض رعايته أطفالًا، فتشفع له عند رب الخلق.
صحا فؤاد قناوي من استغراقه. قال لمن حوله:
- جئت من رحلة غريبة!
تجاوزت شهرة الولي دائرة بحري إلى دوائر أخرى داخل المدينة، وخارجها. عرف بخوارق العادات، وما ينسب إلى الكرامات الروحية، بالقضاء على شرور العفاريت والجن والأرواح الشريرة والأفاعي السامة. تحققت له مكانة كبار العارفين والأولياء.
اطمأن الناس إلى اليقين بأن ولي الله العليمي يملك القدرة على إزالة مصاعب حياتهم، مهما تكن قاسية. ارتقى - فى التصوف - مرتبة عالية. طلب الآخرة وثوابها الأبدي. صار روحًا خالصة. فهو يأتى بالفاكهة فى غير أوانها، ويملي حجابًا يرد شرور الحسد والعين. وقيل إنه اخترع دواء، من يستعمله لا يرى الموت أبدًا، فإن رأى الموت فالدواء سبيله إلى الحضرة الربانية، جنات التعيم.
النساء - من صلاة الظهر إلى صلاة العشاء - يحطن بالضريح، يخضبن المقصورة المعدنية بالحناء، يوقدن الشموع، يوفين ما نذرن به من نقود وكساء وطعام. من أصاب زوجها الربط، من عانت العقم، من أزمعت الصوم كل اثنين وخميس عند تحقق أمنيتها، من ادخرت لشراء عنزة تذبحها إن حدث المأمول. لا يفترن عن الأدعية والابتهالات وطلب الشفاعة والصلاة على النبي.
يتبع
اترك تعليق