بقلم - الدكتور / عبد القادر سليم
مدير عام الدعوة بكفرالشيخ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على البشير النذير السراج المنير الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه حق قدره ومقداره العظيم ، أما بعد:
فإن الباحث في ظاهرة الوَشْم التي صارت تكسُو أجسادَ بعض شبابنا وشابَّاتنا، حاملة من الألوان، والرموز، والرسومات، والصور، والعلامات، والكتابات ما لا يعرِف حقيقتَه كثيرٌ ممَّن شُغِفُوا بهذه التقليعة الجديدة القديمة، في اعتداء على هذا الجسد الذي جعله الله أمانةً في أيدينا، نحاسَبُ عليه يوم القيامة بما أجريناه عليه من تغيير لخَلْق الله؛ فقد قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: 20]، هذه الجلود التي صارت اليوم مسرحًا للغَرْز العنيف بالإبَر حتى يسيلَ منه الدمُ، ثم يُحْشَى الموضِع بكُحْل أو صبغ معين، فيتلوَّن الجلد بلون الصبغ الأخضر أو الأحمر أو الأسود، ولا يزول الأثرُ بعد ذلك إلا بعملية جراحية مرهقة ومؤلمة ومكلِّفة.
أدلة النهي عن الوشم:
******
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لَعَنَ اللهُ الواشِماتِ، والْمُسْتَوْشِماتِ، وَالْمُتَنَمِّصاتِ، وَالْمُتَفَلِّجاتِ للحُسْنِ، الْمُغَيِّراتِ خَلْقَ الله))؛ متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الواصِلةَ، وَالْمُسْتَوْصِلةَ، والواشِمةَ، وَالْمُسْتَوْشِمةَ؛ متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتِيَ عُمَرُ بِامْرأَةٍ تَشِمُ، فقال: أَنْشُدُكُمْ بِالله، هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو هريرة: فَقُمْتُ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أنا سمِعْتُه يقول: ((لا تَشِمْنَ، ولا تَسْتَوْشِمْنَ))؛ صحيح سنن النسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الْعَيْنُ حَقٌّ))، وَنَهَى عنِ الوَشْمِ"؛ البخاري.
فهل هناك أدِلَّة في النهي عن الوَشْم أقوى وأصْرَح من هذا الوعيد الخطير، الذي يجعل اللَّعْنة، وهي الطرد من رحمة الله؛ جزاءً لفاعل الوَشْم ولطالبه، حتى عدَّه المالكية والشافعية من الكبائر؟ مع ما فيه من تعذيب لجسم الإنسان وإلحاق الضَّرَر به، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ))؛ صحيح سنن ابن ماجه.
فكيف إذا أضفنا علة طاعة الشيطان في تغيير خلق الله، وتبديل ما اختاره الله، وهي العلة المنصوص عليها في حديث ابن مسعود السابق: ((الْمُغَيِّراتِ خَلْقَ الله))؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 117 - 119].
قال القرطبي رحمه الله: "وقالت طائفة: الإشارة بالتغيير إلى الوَشْم وما جرى مجراه من التصنُّع للحسن"، وقال صاحب "أضواء البيان" رحمه الله: "وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خَلْق الله الوَشْم، فهو يدلُّ أيضًا على أن الوَشْم حرام"، وقال ابن جزي: "وقيل: التغيير هو الوَشْم وشبهه"، بل جزم ابن مسعود والحَسَن، فقالا: "هي إشارةٌ إلى الوَشْم وما جرى مجراه من التصنُّع للحُسْن".
وعلَّق قتادة رحمه الله على الآية: ﴿ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾، فقال: "ما بال أقوام جَهَلة يُغيِّرون صبغةَ الله ولونَ الله؟".
وقال الحسن رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30]:"إنه الوَشْم".
ويُؤدى الوشم أيضًا إلى تغيّر لون الجلد بسبب صبغة «الميلانين» الموجودة في الجلد المصبوغ، التي قد تتسبب في تغيّر لون الجلد فور اختفائها، وفى بعض الحالات تظهر بعض الكدمات الزرقاء على المنطقة التي رُسِم عليها في شكل تورّم، كما يُؤثِّر الوشم على كريات الدم البيضاء؛ الأمر الذي يقلل من مهاجمة الجسم للأمراض والبكتيريا.
ناهيك عن التشوّه والنفور الحاصلة بسببه، ومبالغة بعض الواشمين فيه حتى استخدموه في وشم بياض أعينهم باللون الأسود، الأمر الذي أدّى إلى فقد بصر كثير منهم.
كما أن لإزالة الوشم مخاطر طبية أيضًا، بالإضافة لانحباس الدم في موضع الوشم، وتلبس جميع حالات العبدبه، حتى في أداء الفرائض كالصلاة التي ينبغى لها الطهارة الكاملة، وقد اتفق الفقهاء على نجاسة موضعه من الجسم، لذا كانت إزالة الوشم من الجسم واجبة إن وجدت طريقة إزالة مقدور عليها، آمنة -كإزالته بالليزر مثلًا-؛ يحافظ الإنسان من خلالها على العضو الموشوم ووظيفته.
هل يختلف حكم الوشم للرجال عن النساء؟
************
يستند العلماء في تحريمهم للوشم إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ..." ويظن البعض أن تلك الأمور خاصة بالنساء فقط، بيد أن الوشم محرم على الجنسين معًا للرجال والنساء على حد سواء، فالوشم معناه غرس الجلد بالإبرة حتى يخرج الدم ويتم وضع مواد معينة في هذه الأماكن تحت الجلد فتختلط بالدم، فيكون هناك تغيير لخلق الله وتكون هناك نجاسة، وهذا حرام ولا يجوز.
هل هناك حالات يجوز فيها عمل الوشم ؟
***********
أحب أن أوضح للقارئ الكريم أن الوشم ليس منهيًا عنه لذاته وإنما منهي عنه لغيره، لكونه محبوسًا بين طبقات الجلد، وإذا كان بمادة تمنع وصول الماء للبشرة، فالوشم يمنع الوضوء لذا فهو نجاسة لانه يحبس الدم، أما الرسم الظاهري فقط، فهو بين أمرين، إما أن يكون بمادة تمنع وصول الماء للبشرة فيشترط إزالته عند الغسل والوضوء، أو بمادة لا تمنع وصول الماء كالحناء الطبيعية فليست هناك ضرورة لإزالتها عند الوضوء أو الغسل.
وقد استُثنيت من حكم حرمة الوشم حالتان، هما :
الحالة الأولى: إذا تعين «الوشم» علاجًا لأحد الأمراض، مع وجود ضرورة مُلحّة للوشم بحيث لم يجد المريض بديلًا عنه مباحًا، وكان تدخّل الوشم بغرض ردِّ الخلقة لطبيعتها، وكان فعله بقدر إزالة الضرر، وأُمنت أضرار الوشم المذكورة سابقًا؛ فالضرر في الشرع لا يُزال بضرر مثله، ويجوز أيضًا إن وجدت ضرورة تستدعى ذلك؛ فالضرورات تبيح المحظورات.
ومن الأمثلة على هذه الحالات: جواز الوشم في رد شكل الجلد إلى طبيعته بعد أن غيّره حرْق أو أحد الأمراض الجلدية كالبهاق، ولتخفيف التشويه بوشم أظافر لمن بُترت أطراف أصابعه مثلًا، وفى علاج بعض حالات الصَّلع والوحمات التي ليس لها علاج تجميلى إلا بالوشم، وجواز النقش بكتابة الاسم والعنوان على أيدى ذوى الاحتياجات الخاصة، ممن يُخشى فقدانهم إن كان في ذلك ضرورة، ولم توجد غير هذه الوسيلة.
أما الحالة الثانية: المستثناة من حرمانية «الوشم» المؤقت على سطح الجلد الخارجى سواء بالحناء، أو بأقلام التحديد غير الدائمة، سهلة الإزالة؛ لكون هذا النوع من الوشم لا ديمومة فيه، وتسهل إزالته، فهو لم يأخذ من الوشم المحرَّم إلا الاسم فقط، ولا بأس في تزين المرأة به لزوجها، بشرط ألا تشتمل رسومُه على مُحرّم مخالف لأوامر الشرع وآدابه، وألا يؤدى لتشويه الخلقة، وألا يطلع على زينة المرأة به رجلٌ أجنبى عنها.
ورسمُ أشكالٍ على سطح الجلد الخارجى لجسد الرجل كجلد الذراع أو الرقبة أو نحو ذلك بما لا يُعدُّ وشمًا؛ لا يجوز أيضًا؛ لما فيه من التَّشبه بالمرأة، ولكونه لا يناسب طبيعة الرجل ومروءته.
أما التقنيات الحديثة التي ظهرت في الفترة الأخيرة ومنها التاتو فالكثير من المتخصصين أكد أنها لا تتسبب في خروج الدم، وبذلك يخرج عن دائرة الوشم ويكون جائزًا، لكن في حالة خروج أي دم حتى لو قطرة يسيرة فهذا حرام لا يجوز.
حكم من مات وفي جسده وشم:
*********
لو مات إنسان وعلى جسده وشم من النوع المحرم فلا يلزم في تلك الحالة احضار الطبيب لإزالته احتراما لحرمة الميت ويترك على حاله ويغسل طبيعيا وأمره موكول الى الله تعالى .
فالوشم يترك ولا يُزال من جسد المتوفى، ويكفن الميت ويصلى عليه وأمره إلى الله تعالى، وهذا بخصوص الأموات.
أما الأحياء فيجب إزالة ذلك الوشم المصنوع بالطريقة المذكورة سلفًا، لأن الدم المحبوس في منطقة الوشم يكون نجِسًا، مؤكدًا أنه لا تصح الطهارة أو الوضوء أو الغسل مع وجود هذا الوشم.
وأما النوع الآخر من الوشم الظاهري ويكون بالرسم بالحناء أو مواد يسهل إزالتها، فهذا الوشم لا يجب إزالته عند الوضوء أو الغسل إذا كانت المدة المصنوع منها لا تؤثر على وصول الماء إلى البشرة، أما إذا كانت تمنع وصول الماء فيجب إزالته.
هذا والله أعلى وأعلم .
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يحفظ مصر وأهلها وأن يجعلها في أمانه وضمانه واحة للأمن والأمان والاستقرار.
كتبه الدكتور/ عبد القادر سليم
مدير عام الدعوة بأوقاف كفر الشيخ
اترك تعليق