إن من أهم التحديات التي تواجهها البشرية هي مشاكل الفقر وعدم المساواة، التي تؤثر على معظم سكان كوكب الأرض. وبالتالي في إطار مواجهة هذه التحديات العالمية، تصبح إمدادات الطاقة الموثوقة والمستدامة أداة حيوية. وفي الوقت نفسه فإن الطاقة النووية قادرة على الاستجابة لهذه التحديات من خلال تقديم حلول موثوقة صديقة للبيئة وفعالة من حيث التكلفة.
كما تتميز المحطات النووية - بالإضافة إلى الإنتاج الفعلي للطاقة الصديقة للبيئة بكميات كبيرة – أنها تعتبر بمثابة حافز لتنمية الكوادر البشرية والمناطق التي تقع فيها المحطة. إن خلق فرص العمل وزيادة وجود المتخصصين المؤهلين في منطقة محطات الطاقة النووية وزيادة الطلب على السلع والخدمات الاستهلاكية، كل ذلك يؤدي إلى تحقيق النمو الاقتصادي. وبهذا المعنى فإن بناء محطة الطاقة النووية في البلاد يعتبر خطوة مهمة نحو تحفيز التنمية المستدامة.
على الصعيد العالمي، تستقطب الطاقة النووية اهتمام العديد من البلدان باعتبارها مصدرًا موثوقًا وصديقًا للبيئة. حيث تستثمر الدول الأوروبية بشكل مكثف في بناء محطات جديدة للطاقة النووية، مدركة أهميتها الاستراتيجية لضمان أمن الطاقة والحد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون.
ففي شهر مارس 2023، صوت البرلمان الفرنسي بأغلبية ساحقة لصالح خطة الحكومة للاستثمار النووي، حيث تتضمن الخطة بناء ستة مفاعلات نووية جديدة. وفي يوليو اتخذت وزارة المناخ والبيئة البولندية قرارًا مبدئياً لشركةPolskie Elektrownie Jądrowe يتعلق ببناء أول محطة للطاقة النووية في بوميرانيا. وفي هذا السياق نوه المفوض الأوروبي للسوق الداخلية إن بنك الاستثمار الأوروبي يجب أن "يدعم السياسات العامة الرئيسية للاتحاد الأوروبي" وبالتالي يجب أن يمول الطاقة النووية، والمسوغ الرئيسي هو مكافحة تغير المناخ.
وبحسب بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية لعام 2021، بلغت حصة الطاقة النووية في إجمالي ميزان الطاقة الكهربائية العالمي حوالي 10%. وهنا لابد من التركيز على حقيقة أنه بفضل عمل المحطات النووية لا يكون هناك انبعاث أكثر من 2 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً مقارنة بتوليد الكهرباء عن طريق الوقود الأحفوري. وبالتالي فإن الطاقة النووية ليست فقط بديلاً مربحاً من الناحية الاقتصادية، ولكنها أيضاً طاقة صديقة للبيئة، وهو ما تؤكده الاتجاهات الدولية المتبعة في تطوير هذه الصناعة.
تؤكد الدراسات والتقارير الدولية أهمية الطاقة النووية للتنمية المستدامة. حيث تؤكد وكالة الطاقة النووية، وهي جزء من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على أن "إنتاج الطاقة واستهلاكها هما أساس التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي". ويشير التقرير أيضًا إلى أن الطاقة النووية تتوافق مع الأهداف الرئيسية للتنمية المستدامة، خاصة فيما يتعلق بنقل مجموعة من المنشآت الهامة إلى الأجيال القادمة بأقل قدر من التأثير البيئي.
لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر محطة الضبعة النووية، وهي أول محطة للطاقة النووية في مصر، والتي تقوم ببنائها شركة روساتوم الحكومية. هنا نلاحظ أن إنتاج الكهرباء من خلال هذه المحطة لأكثر من 30 تيراواط/ساعة سنويًا من الكهرباء النظيفة يتماشى مع الهدف رقم 7 "طاقة نظيفة وبأسعار معقولة"، ويؤدي إنتاج الطاقة النظيفة إلى خفض ما حجمه 15 مليون طن من انبعاث ثاني أكسيد الكربون سنويًا، وهو ما يتماشى مع الهدف رقم 13 "العمل المناخي".
كما إنه بفضل المحطة، يتم خلق آلاف فرص العمل للموظفين المحليين وإنشاء حجوزات إضافية للموردين المحليين، وهو ما يلبي الهدف رقم 8 "العمل اللائق والنمو الاقتصادي"، في حين أن تطوير البنية التحتية حول محطة الطاقة النووية، بما في ذلك، على سبيل المثال، تشغيل ميناء بحري تم بناؤه بهدف استلام المعدات الكبيرة، فإن ذلك يلبي الهدف رقم 9 "الصناعة والابتكار والبنية التحتية". وعلى مقربة من موقع محطة الطاقة النووية، تم بناء مدينة خاصة للعاملين في الموقع، تضم مركزًا للرياضة ومدرسة وروضة أطفال. ويجري التخطيط في المستقبل القريب لبناء مكتبة ومركز طبي ومتاجر ومنافذ بيع المواد الغذائية.
تجدر الإشارة إلى أن مشروع محطة الضبعة النووية يساهم في تطوير استخدام التقنيات النووية في أفريقيا، ناهيك عن إن بناء المحطة يساهم مساهمة كبيرة في تطوير أنشطة الشركات المحلية. فمن خلال اكتساب الخبرة في قطاعات عالية التقنية مثل الصناعة النووية، تكتسب الشركات أيضًا خبرة في العمل بأعلى معايير الجودة أثناء انتاج المواد وتقديم الخدمات، الأمر الذي لا يؤثر فقط على تطوير الصناعة المحلية، ولكنه يفتح أيضًا الباب أمام أسواق بلدان أخرى.
كما سيتمكن الخبراء المصريون، الذين اكتسبوا الخبرة في إطار هذا المشروع، من المشاركة في مشاريع أخرى لبناء محطات الطاقة النووية، والحديث يدور ليس فقط في أفريقيا، مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن 70% من العمال العاملين في مشروع الضبعة للطاقة النووية هم من العمال المصريين. كما إن الشركات المصرية تتولى حالياً بالفعل مسؤولية تنفيذ عدد من الأعمال في الموقع. ناهيك عن إن نسبة التوطين في المشروع سوف تزداد وسوف تتراوح حسب نوع العمل من 20 إلى 35%..
من وجهة النظر الاقتصادية، فإن الطاقة النووية تضمن مؤشر الاستقرار. وعلى عكس مجموعات الطاقة التي تعمل على الوقود الأحفوري، فإن محطات الطاقة النووية أقل تأثراً تجاه التقلبات في أسعار الوقود. وبحسب الحسابات فإن حصة عنصر الوقود في تكلفة الكهرباء لدى محطات الطاقة النووية تبلغ حوالي 4-5%. وللمقارنة، عند استخدام المواد الخام الهيدروكربونية، فإن مكون الوقود في التكلفة يبلغ حوالي 60-70%. وبالتالي، مقارنة بأنواع التوليد الأخرى، تتمتع الطاقة النووية بأكبر مقاومة لتقلبات الأسعار، وهو أمر مهم، في إشارة إلى إن وجود مصدر حمل أساسي مع الحد الأدنى من تقلبات الأسعار يضمن التنمية المستدامة للبلد والمناطق المحيطة.
على كل حال يظهر الأثر الهام من تنفيذ مشروع محطة الطاقة النووية بالفعل في مرحلة البناء. فبحسب متوسط التقديرات، يتم توفير أكثر من 10 وظائف إضافية مقابل كل وظيفة واحدة في المحطة، والحديث يدور قبل كل شيء عن قطاع الخدمات. وهذا له تأثير إيجابي على القوة الشرائية للسكان، ويضمن في نهاية المطاف زيادة في الطلب على القطاعات التي تلبي احتياجات المستهلكين. كما إنه خلال فترة بناء المحطة النووية وحدها سوف تبلغ القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي لجمهورية مصر العربية من تنفيذ المشروع نحو 4 مليارات دولار أمريكي.
استناداً للمارسات العالمية، يكون لمحطات الطاقة النووية أيضًا تأثير إيجابي على مختلف مجالات الحياة. على سبيل المثال، ستوفر محطة "سايزويل سي" للطاقة النووية في المملكة المتحدة 7% من احتياجات البلاد من الطاقة لمدة 60 عامًا على الأقل، وستعمل محطة "موتشوفسي" للطاقة في سلوفاكيا على توفير 6.15 تيراواط ساعة من الكهرباء سنويًا في عامي 2023 و2024 بتكلفة أقل بكثير من سعر السوق البالغ 61.20 يورو (66.60 دولارًا) لكل ميغاوات في الساعة.
وفي الختام، أود أن أقول إن الطاقة النووية لديها القدرة على أن تصبح أحد الحلول الرئيسية للمشاكل العالمية التي تواجهها البشرية في القرن الحادي والعشرين. وهنا لابد من التأكيد على حقيقة إن توفير طاقة كهربائية صديقة للبيئة وموثوقة وميسورة التكلفة أمر أساسي للقضاء على الفقر وخلق فرص العمل وتحفيز النمو الاقتصادي، وخاصة في البلدان النامية.
اترك تعليق