رغم أن الغزو الروسى أودى بحياة عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين الأوكرانيين ودمر مساحات شاسعة من البلاد، تواصل أوكرانيا السماح للنفط والغاز الروسيين بعبور أراضيها لخدمة جيرانها الأوروبيين -مما يدر عائدات مالية لكييف وموسكو ويوضح مدى صعوبة قطع الأعداء الألداء ما بينهما من علاقات، وهو ما قد يجعل الاقتصاد قبل الحرب أحيانًا ويضع المصلحة أولًا ويقدمها على ما عداها حتى لو كانت مع العدو..!!.
مع ذلك طالب كبار المسؤولين الأوكرانيين شركاءهم الغربيين بفرض عقوبات أكثر صرامة وقطع جميع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، قائلين إنه "يجب القيام بالمزيد" لشل آلة الحرب الروسية، وفي تناقض صارخ تصر أوكرانيا علي أنه ليس لديها خيار فعلى سوى الحفاظ على صفقاتها التجارية مع موسكو، ومارست ضغوطها للحفاظ عليها، بحجة أنها توفر بعض النقود للكرملين وتساعد فى تقييد الأماكن التى ينفذ فيها الجيش الروسي ضرباته الجوية.
اعترف أوليكسى تشيرنيشوف، الرئيس التنفيذى لشركة الطاقة الحكومية الأوكرانية نفتوجازNaftogaz، بغرابة الرؤية الأوكرانية في التعامل مع روسيا.
لكن نفتوجاز -وكبار القادة السياسيين -يصرون على أن أوكرانيا لا يمكنها ولا ينبغى لها أن تغلق خطوط الأنابيب، للمطالبة بالعائدات المتبقية "رغم أن المبلغ الذي تدفعه موسكو، إن وجد، غير معلن عنه" ولأن بعض مؤيدى كييف الأوروبيين لا يزالون يعتمدون على النفط والغاز الروسي.
تم تسليط الضوء مؤخرًا على أرباح روسيا المستمرة، وإحباطات كييف، في وثائق المخابرات الأمريكية السرية التى تم تسريبها على منصة الرسائل Discord، والتى قالت إن الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى فكر فى تفجير خط أنابيب النفط "دروزبا" فى وقت سابق من هذا العام.
ووفقًا للوثيقة التى حصلت عليها صحيفة واشنطن بوست، فقد شكك المسؤولون الأمريكيون فى جدية التهديدات، والتى ربما كانت بمثابة فورة إحباط لدى الرئيس الأوكرانى إزاء رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان، الذى أعرب عن مواقف مؤيدة للكرملين وأصر على إعفاء المجر من مساعي الاتحاد الأوروبى لإنهاء مشتريات النفط الروسى.
ويقول تقرير للواشنطن بوست إن موسكو أرسلت حوالى 300 ألف برميل من النفط يوميًا العام الماضي عبر خط أنابيب دروزبا -أو "الصداقة" - الذي يمر عبر أوكرانيا. كما أن روسيا ملزمة أيضًا بضخ حوالي 40 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا عبر شبكة نقل الغاز الأوكراني بسبب اتفاقيات التوريد التي سبقت الغزو الشامل في فبراير 2022.
رسوم المرور
يقول المسؤولون الأوكرانيون إنهم في مأزق، وأن الهيدروكربونات الروسية التى تعبر أراضى أوكرانيا تدر ملايين الدولارات للكرملين وتساعد فى تمويل آلته الحربية، لكن كييف تحتاج أيضًا إلي الأموال التي تكسبها كرسوم على مرور النفط والغاز في أراضيها وتريد أن تكون شريكًا اقتصاديًا موثوقًا به للدول الأوروبية، والتي قد يواجه بعضها زيادات مرعبة فى الأسعار إذا انقطعت إمدادات الطاقة الروسية فجأة.
استخدم الكرملين إمدادات الطاقة كسلاح، بما في ذلك خلال العقد الأول من القرن الحادى والعشرين عندما قطع الإمدادات عن أوروبا مرتين.
لكن كييف أصرت أيضًا على أن الغاز الروسي يجب أن يستمر في التدفق، حتي في السنوات التى انقضت منذ أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014 وأثارت حربًا انفصالية في منطقة دونباس الشرقية، أصرت أوكرانيا على أنها يجب أن تحافظ على دورها كدولة عبور، بينما طالبت أيضًا دولًا مثل ألمانيا بعدم مساعدة روسيا فى بناء خطوط أنابيب جديدة - وهى وجهة نظر وصفها النقاد بأنها منافقة. الآن، تقول أوكرانيا إن جميع مؤيديها يجب أن يقللوا أو يلغوا استخدام للطاقة الروسية.
نشرت مجموعة عمل حول العقوبات الروسية، برئاسة أندرى يرماك، رئيس مكتب الرئاسة الأوكرانى، ومايكل ماكفول، السفير الأمريكى السابق لدى روسيا، "خطة عمل" الشهر الماضى وضعت خطوات إضافية ينبغى اتخاذها لمعاقبة روسيا، لكن الخطة دعت بوضوح إلى الحفاظ على نقل الطاقة الروسية عبر أوكرانيا.
كما دعت إلى تعليق "جميع خطوط الأنابيب المتبقية التى تسيطر عليها روسيا" لنقل الغاز الروسى إلى السوق الأوروبية، وكذلك خط أنابيب ترك ستريم عبر تركيا. وقالت خطة العمل: "أوقفوا الإمداد المباشر للغاز الروسي إلي الاتحاد الأوروبي. إلا عبر أوكرانيا".
علاوة على ذلك، تلتزم روسيا بدفع 7 مليارات دولار لأوكرانيا على عقد مدته خمس سنوات تم توقيعه فى عام 2019، يُطلق عليه اتفاقية "الضخ أو الدفع"، والتى تتطلب من موسكو أن تدفع عند شحن أى غاز، "فلماذا لا تحصل أوكرانيا على المال؟" حسبما قال أندرس أسلوند، وهو خبير اقتصادى متخصص فى شؤون الاتحاد السوفيتي السابق وكان جزءًا من مجموعة عمل العقوبات، "تم الاتفاق على عقود مع الاتحاد الأوروبى حول هذه المقتطعات".
قال أسلوند إن الهدف من العقوبات ليس فرض "حظر عام على التجارة مع روسيا"، ولكن "إلحاق أكبر قدر من الضرر لروسيا دون التسبب فى أضرار أكبر لأوكرانيا".
فى 10 مايو، التقى مبعوثو الاتحاد الأوروبى في بروكسل لمناقشة حزمة جديدة من العقوبات ضد روسيا، وهذه الحزمة هى الحادية عشرة حتى الآن، وكانت الإجراءات السابقة استهدفت الأفراد والشركات وقطاعات الاقتصاد الروسى، وقيدت الصادرات والواردات.
وبموجب عقد الغاز الذى أبرمته روسيا مع كييف، فإن موسكو ملزمة بدفع ما بين مليار إلى 1.5 مليار دولار لأوكرانيا سنويًا.
شروط التعاقد
وفي سبتمبر، رفعت شركة نفتوجاز دعوى أمام محكمة التحكيم الدولية في باريس، قائلة إن شركة الغاز الروسية الحكومية غازبروم " لم تدفع الأموال لا فى الوقت المحدد ولا بالكامل" بموجب شروط العقد
فى مرحلة ما، أرسلت روسيا أكثر من 80% من غازها عبر أوكرانيا للدول الأوروبية.
بالإضافة إلى المجر، تعتمد جمهورية التشيك وسلوفاكيا على النفط المشحون عبر دروزبا، بالإضافة إلى ذلك، كسبت أوكرانيا ما يقرب من 180 مليون دولار على رسوم العبور من دروزبا العام الماضى، وكما قال سايجر، "المال هو المال".
كانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أعلنت في مارس الماضى أن اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسى أصبح "فى ذمة تاريخ".
لكن بعض كبار المسؤولين الأوكرانيين وأعضاء البرلمان الأوروبي والمطلعين علي الصناعة. يقولون إن فصل التاريخ لا يزال قيد الكتابة.
ويقولون إن كميات كبيرة من الهيدروكربونات الروسية. وخاصة النفط، لا تزال تلتف حول العقوبات وتصل إلى السوق الأوروبية، مما يوفر مدفوعات لتمويل آلة حرب فلاديمير بوتين.
قال أوليج أوستينكو، المستشار الاقتصادى للرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، لموقع بوليتيكو POLITICO: "كان لدى صديق فى نيويورك فى تسعينيات القرن الماضى يشكو من أن الصراصير تدخل شقته من خلال أى ثغرة -وهذا ما تفعله الطاقة الروسية"، "علينا إصلاح هذه الثغرات لمنع روسيا من تلقى هذه الأموال المستخدمة لتمويل الآلة العسكرية التى تدمر بلادنا وتقتل شعبنا".
وأشار تقرير بوليتيكو، الذى كتبه جبريال جافين، إلى أن النفط الخام يصعب تتبعه فى الأسواق العالمية، ويمكن خلطه أو مزجه بسهولة مع الشحنات الأخري في بلدان العبور، مما ينتج عنه بشكل فعال كمية أكبر من النفط لا يمكن تحديد مصادرها، كما أن عملية التكرير، تزيل أيضًا جميع آثار منشأ المواد الخام.
تضيف شبكة معقدة من شركات الشحن، تحمل أعلام ولايات قضائية خارجية غامضة، طبقة أخرى من الغموض.. وقد اتُهم البعض بمساعدة روسيا فى إخفاء منشأ صادراتها من الخام باستخدام مجموعة متنوعة من الوسائل.
"على عكس الغاز عبر خطوط الأنابيب، فإن سوق النفط عالمى، حسبما قال ميخائيل خودوركوفسكي، أحد منتقدي بوتين البارزين والرئيس التنفيذى السابق لشركة النفط والغاز العملاقة يوكوس: "
"الحظر ينتج عنه زيادة كبيرة في تكاليف النقل الروسية، وهناك جانب كبير من الإيرادات يجرى توزيعه لصالح الوسطاء، كما أن هناك بعض الخصم الإضافى بسبب تضييق سوق المشترين".
ورغم حظر الاتحاد الأوروبى الوقود الأحفورى الروسى منذ غزو أوكرانيا مع استثناءات لكميات محدودة من النفط الخام، والغاز فى خطوط الأنابيب، والغاز الطبيعى المسال، والمنتجات النفطية، هناك كميات كبيرة من النفط الخام الروسى، تمثل مصدر دخل أكبر من الغاز -لا يزال يتم شحنها إلى الأسواق العالمية، مما دفع بعض الخبراء للشك فى أنها تجد طريقها للسوق الأوروبية عبر الباب الخلفى.
فرض العقوبات
إحدى الطرق المحتملة لدخول النفط إلى أوروبا هو أذربيجان، المتاخمة لروسيا وهى نقطة الانطلاق لخط أنابيب باكو -تبليسى -جيهان (BTC)، الذي تديره شركة بريتيش بتروليوم، ويعتبر ميناء جيهان في تركيا مركز إمداد رئيسيًا.. حيث يتم شحن النفط الخام منه إلى أوروبا، كما تستقبل تركيا كميات كبيرة من العراق عبر خط انابيب كركوك -جيهان.
أثار فرانسوا بيلامى، عضو البرلمان الأوروبي وعضو لجنة البرلمان الأوروبى للصناعة والبحوث والطاقة، شكوكًا حول هذا المسار فى سؤال أخير إلي المفوضية، وقال إن البيانات تشير إلى أن أذربيجان صدرت 242 ألف برميل يوميًا زيادة على حجم إنتاجها بين أبريل ويوليو من العام الماضى، وهو هامش كبير زيادة على الإنتاج المحلى، الذى بلغ 648 ألف برميل يوميًا في فبراير الماضي.
وقال بيلامى: كيف يمكن لدولة أن تخفض إنتاجها وتزيد صادراتها فى نفس الوقت؟ "هذا التناقض يخلق شكوكًا فى أنه يتم الالتفاف على العقوبات".
اضطرت شركة بريتيش بتروليوم سابقًا إلى إنكار أن خط أنابيب BTC يحمل النفط الروسى، وتظهر البيانات التى اطلعت عليها بوليتيكو لشحنات النفط الخام من جيهان انخفاضًا مؤخرًا فى حجم الصادرات إلى الاتحاد الأوروبى، من حوالى 3 ملايين طن شهريًا فى أوائل عام 2022 إلي حوالى 2 مليون طن شهريًا هذا العام.
فى الوقت نفسه، ضاعفت تركيا وارداتها المباشرة من النفط الروسى العام الماضى ورفضت فرض عقوبات على الخام الروسى رغم تقديمها الدعم العسكرى والإنسانى لأوكرانيا فى الوقت نفسه.
حذر المركز الفنلندى لأبحاث الهواء والطاقة النظيفة (CREA) فى أواخر العام الماضى من أن "مسارًا جديدًا للنفط الروسى إلى الاتحاد الأوروبى آخذ فى الظهور عبر تركيا، وهى وجهة متنامية للنفط الخام الروسى".. حيث يتم تكريره إلى منتجات نفطية لا تخضع للعقوبات ويتم بيعها.
قال أوستنك، مستشار زيلينسكى: "لدينا أدلة كافية على أن بعض الشركات العالمية تشترى منتجات مصفاة من النفط الروسى وتبيعها إلى أوروبا"، "إنه أمر قانونى تمامًا، لكنه غير أخلاقى بالمرة".
وكانت منظمة جلوبال ويتنس البريطانية غير الحكومية أصدرت تقريراً أظهر أن النفط الروسى يباع باستمرار بأسعار تتجاوز بكثير الحد الأقصى البالغ 60 دولاراً الذى فرضته دول مجموعة السبع فى ديسمبر من العام الماضى.
وقالت ماى روزنر الناشطة التى عملت على التقرير: "لقد تركت الحكومات بابًا خلفيًا مفتوحًا على مصراعيه أمام صناعة الوقود الأحفورى، ويستغل تجار السلع وشركات النفط الكبرى هذه الثغرات لمواصلة استخدام النفط الروسى فى العمل كالمعتاد".
اترك تعليق