من الأعمال النقدية التي بحثت عن تمظهرات الواقع في النص المسرحي، لكن من خلال البلاغة والبحث عن نظرية جديدة للإبداع المسرحي في طوره الكتابي، كتاب الدكتور محمد زيدان "بلاغة النص المسرحي المعاصر بحث في فلسفة الحالة المسرحية" والذي يتخذ من مسرحية "في انتظار جودو" لصمويل بيكيت نصًا أساسيًا طوال متن الكتاب ويقيس من خلاله النصوص المسرحية الأخري التي تأثرت به أو استلهمت حالة واقعية قريبة من الحالة التي كان عليها نص بيكيت،
ذلك النص الذي كتب في أعقاب الحرب العالمية الثانية وعن هذا الواقع وعلاقته بمسرح اللامعقول يقول مؤلف الكتاب الكتور محمد زيدان: "إن المتأمل في أحداث الحرب العالمية، وعدد القتلي والدمار وما نتج عنها من قيام أيديولوجيات وانتهاء أخري، وصعود دول وموت أخري يجعل من الاتجاه الذي سماه النقاد مجازاً مسرح اللامعقول جزء لا يتجزأ بل وصورة أكثر عقلانية من الواقع نفسه، وكذلك فإن خلق الشخصيات داخل السياق النصي، وخلق المواقف والأحداث وتبادل الأفكار وعلاقات الزمان والمكان صورة الوجه الثاني الحاضر، من ذلك الوجه الأول الحقيقي" لكن المؤلف وأثناء تحليله للنصوص لم ينطلق من الواقع ليصل إلي النص، بل كان منطلق المؤلف النص نفسه والوصول من خلاله إلي الواقع، لقد ظل الفكر البلاغة للنص المسرحي هو المسيطر على المؤلف..حيث يري أن الأسس الجمالية تنبع من النص نفسه، يقول "نحن في حاجة إلي نماذج من التفكير الجمالي التي تقوم على أسس نظرية تنبع من النص، أو بالأخص إذا كان النص مكتوبًا للمسرح" ويري أيضًا أننا يمكن أن نقدم من خلال النص نفسه "تفكيرًا مركبًا في الدلالة، وحتي في التشكيل من خلال استخدام أقنعة ورموز وأفكار تؤسس بلاغيًا وجماليًا للنص المسرحي المعاصر.
ورغم اتخاذ المؤلف من نص في "انتظار جودو" نصًا مركزيًا لتطبيق نظريته عليه. إلا أنه يعد بحثًا موسعًا لدراسة النص المسرحي، فتحضر فيه نصوص من شتي بقاع العالم، فنجد نص "في انتظار جودو" للكاتب الإيرلندي إلي جوار نص "الخراتيت" للفرنسي يوجين يونسكو، إلي جانب نص "ذهان" للإنجليزية سارة كين، ومن العالم العربي نجد نصوص "إيزيس" و"يا طالع الشجرة" لتوفيق الحكيم، و"مأساة الحلاج" و"مسافر ليل" لصلاح عبد الصبور و"سكة السلامة" لسعد الدين وهبة، و"قضية إسكات الببغاوات" لإبراهيم الحسيني، و"سرير" لصفاء البيلي و"أرض الله" لمحمد عبد الحافظ ناصف، و"القفص" لسعيد حجاج من مصر، ومن سوريا نجد نص "الأيام المخمورة" و"رحلة حنظلة" لسعد الله ونوس، ومن الإمارات "هواء بحري" لصالح كرامة، ومن المملكة العربية السعودية مسرحية "سفر الهوامش" لفهد ردة المسرحي.
وكما يتضح فإن مدونة الدراسة يغلب عليها الذكورية.. حيث نجد أربعة عشر نصًا لكتاب رجال، في مقابل نصين أنثويين فقط، لكن يتضح من المدونة أيضًا اتساع الرقعة الجغرافية لبلدان المؤلفين ما يجعل هذا الكتاب ضمن إطار البحث المقارن من ناحية والبحث التقابلي من ناحية ثانية، وقد أخذ المؤلف في رصد الاتفاق والاختلاف بين النصوص وبعضها عقب كل تحليل، فنجده يقابل بين توفيق الحكيم في نص إيزيس وصلاح الصبور مأساة الحلاج ويقول "اللغة عند توفيق الحكيم جاءت مباشرة للتعبير عن المواقف المختلفة، وكانت متشابهة عن كل الشخصيات، بمعني أن المؤلف أراد أن يقدم المعني وتأويل المعني بديلا عن المستويات المتعددة للغة، أما عند صلاح عبد الصبور، فاللغة كانت إشارية إلي درجة كبيرة يحكمها المجاز في كل المواقف، وتحكمها التحولات التي يسيطر عليها المتخيل في النص" كما يجري مقارنة بين النصوص العربية والغربية أثناء عملية التقابل بين النصوص العربية أيضًا، يقول المؤلف "أولا: موقف المتخيل في مسرحية أرض الله لمحمد عبد الحافظ ناصف موقف محرك للفعل، وجاء اختياريًا وممثلا للأثر الدلالي للحكاية في النص، ثانيا: الصورة الكلية للخيال العقلي في مسرحية ذهان للإنجليزية سارة كين تمثل قوة الفعل المحرك لكل مسارات النص، على اعتبار أن الحكاية مثلث مجازاً قويا لتأويلات متعددة اتحد فيها شكل النص بمعناه اتحادا يصعب الفصل بينهما، ثالثا: خيال النسق الفكري في مأساة الحلاج جاء فيما يشبه القدر الذي حرك كل الأفعال في الحكاية، ومثل المواقف المؤيدة، والرافضة في آن واحد، رابعًا: الفعل المادي الممثل في البحث عن أزوريس، يمثل نموذجاً لحركة الخيال المنطقي الذي يربط أجزاء الموقف، وهو موقف البحث عن العدل والحق ويمثل مجازًا كليًا كما فعلت سارة كين، ولكن ليس علي سبيل الموقف العقلي وإنما صورة "مادية" وقد أدت المقارنات والمقابلات إلي نتائج مهمة، فيري المؤلف أن الحالة الفلسفية لنص في انتظار جودو يتشابه معها كثير من النصوص العربية من أقطار مختلفة رغم اختلاف السياقات.
وبعد فإن كتاب "بلاغة النص المسرحي، بحث في فلسفة الحالة المسرحية" يحاول أن ينظر للنصوص من داخلها ولا يتوقف عند مسرح أمة بعينها، بل يدرس المسرح في أشكاله العالمية المتشعبة محاولا الخروج بنظرية بلاغية للمسرح، تنبع من النص ذاته.
اترك تعليق