يراود المصريون تاريخيا بصفة عامة حالة من العاطفة القوية تجاه روسيا منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وإطلاق البلاد برنامجا نوويا مع توريدها من الاتحاد السوفيتي أول مفاعل بحثي نووي لها بقوة 2 ميغاواط في عام 1961 وبدء تشغيله في مركز البحوث النووية بمدينة أنشاص قرب القاهرة.
عدا السياسة والحلم بالطاقة النووية، يكن المصريون، أيضا بصفة عامة، شغفًا ملحوظًا بممارسة صيد الأسماك. تتزين جدران المعابد الفرعونية بالعديد من لوحات صيد الأسماك، ولا تزال تلك التقاليد مستمرة حتى الأن في طريقة إنتاج وجبة سمك الفسيخ والملوحة التي يستمتع السكان بأكلها في عيد شم النسيم، وهو أصلًا عيد فرعوني.
وذكر سيد كريم في كتابه "الحكم والأمثال في الأدب الفرعوني" أن هناك العديد من الأمثال التي تناولت الأسماك لدى المصريين القدماء مثل: السمكة الفاسدة تفسد كل سمك السلة، والأسماك التي تعيش في البركة الفاسدة، يسرى عفن رائحة ماء البركة في دمائها.
وعبر المصريون عن شغفهم بصيد الأسماك في الأغاني، ومن أشهرها أغنية "عدوية" للفنانين الراحلين العظماء المغني محمد رشدي والملحن بليغ حمدي والشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي أبدع حينما نسج كلمات الأغنية بموال يقول في بدايته: صياد ورحت اصطاد، صادوني.. طرحوا شباكهم رموش العين، صابوني. يا عدوية، رمشك خطفني من اصحابي وانا واد صياد.. لفيت بلاد وبلاد، اتاريكي ساكنه الناحية دي، يا سلام يا ولاد. مين كان يقول البصة دي تصطاد صياد.
وبالتأكيد لم يخطر في بال الأبنودي، أنه سيأتي اليوم الذي يذهب فيه الصياد ليصطاد بجوار محطة نووية، وهو ما حدث مؤخرًا، حينما اجتمعت العاطفة مع الشغف ليحقق فريق من الصيادين المصريين فوزًا مستحقًا في البطولة الدولية الثانية لرياضة صيد الأسماك في روسيا، وحصدوا المركزين الثاني والثالث في المسابقة التي نظمتها شركة "روساتوم" الروسية الحكومية للطاقة النووية التي تتولى بناء محطة الضبعة النووية في مصر.
وجرت فعاليات البطولة يومي 7 و8 سبتمبر 2022، بجوار محطة "لينينجراد" للطاقة النووية الواقعة قرب مدينة سانت بطرسبرغ على الشاطئ الجنوبي لخليج فنلندا. وتعد هذه المنشأة واحدة من أكبر محطات توليد الطاقة النووية في روسيا.
وشهدت البطولة في دورتها الثانية مشاركة 26 منافسًا من هواة رياضة صيد الأسماك من روسيا والدول التي تنفذ فيها شركة "روساتوم" مشاريع لإنشاء محطات نووية أو تخطط لإطلاق مشاريع من هذا القبيل. وضمت قائمة الدول المشاركة كلا من أرمينيا والمجر ومصر والهند وبنغلاديش وكازاخستان وأوزبكستان وجنوب إفريقيا وتركيا.
وتكون الفريق المصري الفائز بالمركز الثاني من عبد الناصر عبد اللطيف وعبد الجيد فرج، بينما مثل مصطفى كمال مصر في الفريق المصري الروسي المشترك الفائز بالمركز الثالث.
وقال عبد الناصر عبد اللطيف، قائد فريق الصيد المصري من محافظة مطروح: "نحن سعداء جدا لزيارة محطة لينينغراد النووية، إنها تجربة رائعة. والمحطة آمنة تمامًا، ونحن على ثقة بأن المحطة النووية في الضبعة ستكون على المستوى نفسه من الأمان".
وأضاف: "هذه هي المرة الثانية التي أسافر فيها إلى روسيا ولكن هذه المرة كنت مع فريق مختلف وكنت أود أن أري أعضاء الفريق المدينة التي يوجد فيها المفاعل المماثل لما سيبنى في محطة الضبعة لدينا، ورؤية كيف يعيش السكان في البلد. وهدفنا الرئيس هو المشاركة في المسابقات الدولية لصيد الأسماك مع صيادين هواه ومحترفين باسم مصر. وكانت زيارة محطة لينينغراد النووية زيارة شاملة لكافة الغرف والتواصل مع الخبراء وأصبحت لدينا رؤية كاملة حول أمان المحطة النووية على العاملين بها والساكنين بمحيطها".
وقال مصطفى عتريس وعبد الجيد فرج: "إنها الزيارة الأولى لروسيا والمرة الأولى التي نشاهد فيها مفاعلا نوويا قيد التشغيل ويولد الكهرباء للمدينة التي أقيمت فيها المسابقة وهو شيء مبهر جدا، وشاهدنا مدى الاهتمام والانضباط داخل المفاعل وأن كل عامل ومهندس له وظيفته وينجزها على أكمل وجه، لذا شعرنا داخل المفاعل بالأمان التام. إن شاء لله يحقق مشروع الضبعة في محافظة مطروح نجاحا مماثلا".
كما زار المشاركون في البطولة مدينة سوسنوفي بور الواقعة بجانب المحطة النووية حيث التقى بالسلطات المحلية. وأثارت المدينة إعجابا لدى الصيادين بمستوى التطور الحضري الذي تتمتع به وبعدد الحدائق العامة الموجودة فيها. وأكد فلاديمير بيريغودا، مدير محطة لينينغراد للطاقة النووية، أن المدينة لم تشهد أي تدهور في حالة البيئة منذ بدء تشغيل المنشأة.
كما تمكن المتنافسون خلال مشاركتهم في البطولة من مشاهدة الثروة السمكية في خليج فنلندا، وتأكدوا من مدى نظافة مياه الخليج، من خلال عملية قياس جرعات الإشعاع في الأسماك التي تم صيدها، وبعد قياس الوزن أعيدت تلك الأسماك إلى مياه البحر.
وعلق رئيس شركة "روساتوم - الشبكة الدولية" فاديم تيتوف على الحدث قائلا: "للمرة الثانية تقام هذه البطولة على نطاق دولي واسع، وكانت شركة "روساتوم" قد بدأت في تنظيم مسابقات صيد الأسماك في الأحواض المائية القريبة من محطات توليد الطاقة النووية قبل أكثر من 10 سنوات. نولي أهمية كبيرة لمثل هذه الفعاليات، وتمكن ضيوفنا القادمين من 9 دول من التأكد بأنفسهم من أن أسماكًا نظيفة بيئيًا تعيش في الجوار المباشر لمحطة الطاقة النووية".
وتتيح البطولات الرياضية لصيد الأسماك تعزيز دور الدبلوماسية الشعبية لأنها تؤكد مرة تلو الأخرى أن محطات الطاقة النووية لا تضر بالبيئة، بما في ذلك النباتات والحيوانات الموجودة في الأحواض المائية المجاورة.
وقد عاد الفريق المصري إلى الوطن سالمًا غانمًا، محملًا بجوائزه وخبرات جديدة ومفيدة، ولم يتعرض لما تعرض له بطل الفنان الراحل محمد رشدي في الأغنية وهو ذهب ليصطاد فتم صيده وراح ضحية الحب بعدما وقع فريسة لعيون "عدوية".
اترك تعليق