كان هبة الله للمصريين فى القرن العشرين، فهذا الشاب الكفيف الذى كافح وناضل حتى أصبح أول مصرى يحصل على درجة الدكتوراة من الجامعة المصرية ثم الفرنسية، ولم يكتف بنجاحه الشخصى وتحقيق أحلامه وتحديه لاعاقته، بل حمل شعلة التنوير والتعليم للعالم العربى عامه وللمجتمع المصرى خاصة، وذلك حين أوصى بأن يكون التعليم حقا لكل مواطن مثل الماء والهواء، ومن أوائل من نادوا بمجانية التعليم التى افادتنا جميعا منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضى وحتى الآن ولذا أطلقت عليه صفة "الكفيف المنير".
ولد الدكتور طه حسين، فى 14 نوفمبر عام 1889 فى محافظة المنيا جنوب مصر "منطقة الصعيد" بقرية تدعى "الكيلو" تابعة لمديرية مغاغة، من أب وأم مصريين من المزارعين وفقراء القوم ، وحين بلغ السابعة من عمره أصيب بمرض الرمد الصديدى وفقد بصره على إثر مضاعفات هذا المرض، ثم ألحقه أبوه بكتاب القرية فتعلم أصول اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم.
درس بالأزهر الشريف
وألحقه والده بالأزهر الشريف عام 1902 لاستكمال دراسته وكان أثناء الدارسة متفوقاً على زملائه من الطلبة، رغم فقدانه ببصره لأنه خلال فترة تواجد فى المنيا ساعده ذكاؤه المفرط على أن يحصل ثقافة سمعية كبيرة من استماعه إلى أخبار الهلاليين وقصص القرآن الكريم واغانى القرية وقصص المعلم جريس وأحاديث الكبار الذين كان يجلس بينهم وتملك منه حب الأدب والرواية والشعر والسيرة الذاتية النبوية الشريفة وكان يكره الجهل الذى تسبب فى فقدانه ببصره عندما سلموه لحلاق القرية كى يعالج عينيه، وهو طفل مما تسبب فى إعاقته، ومن هنا ظهر الفارق المعرفى بينه وبين زملائه الذين كانوا ينادونه بالاعمى، وكانوا يأكلون الطعام من أمامه أثناء تناول الوجبات فى القسم الداخلى بالسكن الأزهرى وعندما يجد الصحن فارغا يقولون له "إنك أكلته دون أن تدرى لأنك أعمى" ومن تلك الأيام الخوالي فى طفولته قرر أن تكون مسيرة حياته هى التحدى ثم التحدى للتفوق على الجميع .
وبعد أن نال قسطاً كبيراً من علوم الأزهر ضاق ذرعا بطريقة الدارسة، وظل يتردد على الأزهر حتى عام 1914، حتى بعد أن علم نفسه اللغة الأجنبية وكانت نفسة تواقة للأبحاث والتجديد، ولذلك التحق بالجامعة الأهلية المصرية فور افتتاحها عام 1908، ولم يكن متبرما من فقدانه ببصره ولم يكن لديه الإحساس بعدم القدرة على استكمال تعليمه العالى بعد أن درس بالأزهر المنطق والبلاغة والأدب والفقه، بالإضافة إلى علوم القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
سفره إلى فرنسا
وسافر الدكتور طه حسين إلى فرنسا لاستكمال دراسته العليا والحصول على درجة الدكتوراه الثانية، وكان بحثه فيها عن عالم الاجتماع العربى التونسى والأول فى العالم عبد الرحمن بن خلدون وكانت بعثته على نفقة الحكومة المصرية عام 1914 ونزل أولا فى مونبيليه ودرس الادب الفرنسى وعلم النفس والتاريخ الحديث حتى عام 1915، وأثناء الدارسة حدثت صراعات سياسية فى مصر، والحرب العالمية الأولى اندلعت فى أوروبا وتدخلت السياسة فى العلم، وكاد أن يعود من البعثة الدارسة بعد أن تم حرمانه من المنحه لولا تدخل السلطات حسين كامل "حاكم مصر قبل الملك فؤاد" الذى أمر باستكمال بعثته على نفقة الدولة حتى عاد إلى مصر بعد حصوله على درجة الدكتوراه فى الآداب عام 1919, ومن يومها بدأ يكتب للعرب ويحثهم على التفكير فيما يقرأونه بعد أن عين أستاذا فى جامعة القاهرة متخصصا فى التاريخ اليونانى والأدب العربى .
حلقة وصل بين الحضارة العربية والأوروبية
وكان أستاذا متميزاً لانه تمكن من دارسة اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية والفرنسية والسريالية فأصبح طه حسين يمثل حلقة الوصل بين الحضارات العربية والأوروبية، وكان يعتبر الحضارة العربية والإسلامية امتداد للحضارة اليونانية العريقة وتحدث كثيرا فى الإذاعة المصرية عن تكامل الحضارات وليس تنافسها، ومن مؤلفاته التى تعدت المائة كتاب فى شتى متاحة الآداب والدين والفلسفة والقصة فيكفيه فخرا كتابه الذهبى الذى مازلنا حاجة إليه وهو الأيام التى تطرق فيه قصة حياته ومعاناته حتى وصل إلى هذا الدرجة من العلم والثقافة.
وكان طه حسين أول من قدم الأدب اليونانى مدروسا ومشروحا للقاعدة العريضة من جمهور المثقفين من خلال الصحف والمجلات إلى جانب المحاضرات فى الجامعة المصرية ومؤلفه " قادة الفكر" يوضح دورة فى التفسير الاجتماعى للثقافة اليونانية، وقد كتب طه حسين " قادة الفكر" ونشرة سنة 1925، ودرس فيه كلا من سقراط وافلاطون وارسطو وارسطاطاليس والاسكندر ويوليوس قيصر بمنهج جديد يوضحه فى مقدمة الكتاب بأنه سيكون "شديد الاقتصاد فى ذكر الحوادث والاخبار والتواريخ التى تتصل بحياة الأشخاص لا إهمال، ولكن لأن أدابهم واراءهم على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية، أى أنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر منها أثرا من آثار الفرد الذى رآها واذاعها " وهذا المنهج الذى أخذ طه حسين نفسة به فى دارسة قادة الفكر يتسق مع ما يؤمن به من أن الفرد ظاهرة اجتماعية.
تراجمه وصداقاته
وقد ترجم طه حسين الكثير من القصص القصيرة والمسرحيات عن الأدب الفرنسى وكان ينقدها ويدرسها فى أكثر من كتاب من كتبه مثل " صوت باريس" و"’فصول فى الأدب والنقد" و"لحظات"
وكان له صداقات بالمفكرين المعاصرين مثل:
"اندريه جيد" و "سارتر وبول فاليرى" و" ماسينيون" وكتب عنهم فى " فصول فى الأدب والنقد" .
حصل طه حسين على شهادته الجامعية عام 1914 من الجامعة الأهلية وتقدم للدراسات العليا وعرض أطروحته لنيل الدرجة العلمية التالية، وتمت مناقشتها فى الجامعة ونال درجة الدكتوراه بتفوق وكانت أول رسالة تناقش فى جامعة القاهرة، وكان موضوعها عن أبى العلاء المعري، كان الدكتور طه حسين أول من افتتح الطريق ثم أصبح أول قاطرة فى العالم العربى تقطر عربات الثقافة والمعرفة والأدب الحديثة وتنقلها من أوربا إلى مصر والعالم العربى وذلك بعد أن نال درجة الدكتوراة من جامعة السوربون بفرنسا وعاد ليدرس فى جامعة القاهرة.
مناصبه وجوائزه
تم تعيينه وزيرا للمعارف بالحكومة المصرية فى العهد الملكي، وأستاذا بكلية الآداب جامعة القاهرة ، ثم عميدا للكلية مرتين ، ولعب دورا مؤثرا هاما فى إنشاء جامعة الإسكندرية، وكان عضوا بالبرلمان المصرى ، وسفيرا فوق العادة للثقافة المصرية والإسلامية فى مختلف الدول الأوروبية، وخير مدافع عن الحضارة والثقافة الإسلامية، حتى أن معظم تلك الدول منحته العديد من الأوسمة، فحصد ( 36 ) جائزة مصرية ودولية أثناء حياته وكرامته العديد من الدول العربية مثل لبنان وسوريا والسودان والمغرب وتونس والمملكة العربية السعودية فى عهد الملك عبد العزيز آل سعود وكرمته جمهورية مصر العربية باهداءه قلادة النيل فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر وجعلت من منزله متحفا يحتوى على آثاره وكرمت السيدة الفاضلة زوجته الفرنسية سوزان بعد وفاته.
توفى عميد الأدب العربي طه حسين فى 28 أكتوبر عام 1973.
اترك تعليق