مع بدء الحرب الروسية بأوكرانيا فى الرابع والعشرين من شهر فبراير المنصرم، هرعت الدول الغربية إلى فرض حزم متعاقبة من العقوبات الاقتصادية على موسكو، بغية محاصرة الاقتصاد الروسى وإضعافه. ومع توسيع الدول الغربية عقوباتها الاقتصادية على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، صعدت إلفيرا نابيولينا، محافظة البنك المركزى الروسي والشخص الأكثر شهرة في حكومة الرئيس فلاديمير بوتين، إلى واجهة الأحداث، والملقبة بـ "المرأة الحديدية". وتمثل نابيولينا أحد اللاعبين الرئيسيين فى جهود موسكو لمنع الانهيار الاقتصادي نتيجة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بسبب غزو أوكرانيا، وحليفا لبوتين على مدى عقدين. وكانت المسئولة الرئيسية عن استقرار الروبل ومكافحة التضخم، وهي مهمة يراها الكرملين ضرورية لحماية الروس من تداعيات العقوبات
أعادت للروبل عافيته.. كبحت جماح التضخم.. منعت الانهيار الاقتصادى
ورأت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، أن نابيولينا نجحت في مهمتها إلى حد ما، إذ ساعدت مجموعة من الإجراءات الطارئة التي اتخذتها منذ بدء العمليات العسكرية الروسية فى أوكرانيا، فى الحد من الانخفاض الحاد لقيمة الروبل، الذي عاد تقريبا إلى المعدل الذي كان عليه قبل الحرب. سعر الدولار اليوم، نحو 66 روبلا بعد أن وصل إلى 130 روبل عقب بدء الحرب الروسية على أوكرانيا. وقبل الحرب، جمع المصرف المركزي الروسي صندوقاً بقيمة 630 مليار دولار لضمان قدرته على الخروج من أى أزمات. وأعلن وزير المالية الروسي عن تجميد حوالي 300 مليار دولار من هذا المبلغ. وأصدر المصرف المركزى الروسي بيانا أعلن فيه عن رفع الفائدة من 9.5 إلى 20 في المئة، نتيجة تغير الظروف الخارجية المحيطة بالاقتصاد الروسى، معتبراً أن رفع معدل الفائدة سيضمن ارتفاع الإيداع إلى المستويات المطلوبة، للتعويض عن تدهور القيمة وزيادة التضخم والحماية من مخاطرهما. وشهر إبريل الفائت، خفضت نابيولينا سعر الفائدة إلى 17 في المئة. وفرضت نابيولينا عدة إجراءات أخرى لمواجهة العقوبات الغربية، منها "أمر التسوية بالروبل"، الذي نجح في منع انهيار النظام المالي الروسي، والذي تسبب في انتعاشه بشكل حاد إلى مستويات ما قبل الحرب. كما قيدت تحويل الأموال إلى الخارج، والضغط على الشركات الروسية التي تعمل مع عملاء غربيين من خلال إرغامهم على تحويل 80 في المئة من أرباحهم من العملة الصعبة إلى روبل. إلى ذلك، حدت نابيولينا من عمليات السحب من الحسابات المصرفية للأفراد بالعملات الأجنبية.. ولدى نابيولينا سلطة أوسع من تلك التي يتمتع بها الكثير من نظرائها الغربيين، في ظل تنظيم المصرف المركزي الروسي الأسواق المالية وشركات التأمين وصناديق الاستثمار في البلاد، فضلاً عن الإشراف على المصارف ووضع سياسات نقدية. وحققت بعض إجراءات الطوارئ التي اتخذتها أهداف الكريملين في مواجهة العقوبات الأمريكية والأوروبية، منها منع المستثمرين الأجانب من بيع عشرات المليارات من الدولارات من الأسهم الروسية. وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد نسبت إلى مصادر مطلعة قولها إن غزو أوكرانيا أثار صدمة نابيولينا، ودفعها إلى التفكير في الاستقالة. إلا أن المصرف المركزي نفى أنها فكرت في الاستقالة، وكذب بوتين بدوره هذه الادعاءات عبر ترشيحها لولاية ثالثة كحاكمة للمصرف المركزي. وبعد أيام قليلة من الحرب، حضت نابيولينا موظفيها على تنحية أي شكوك جانبا والتركيز على مهمة إنقاذ الاقتصاد. وأثبتت نابيولينا قدرتها على العمل في ظل أنظمة أيديولوجية مختلفة. فتلقت تعليمها في الحقبة الشيوعية، واعتنقت اقتصادات السوق الحرة خلال مسيرتها المهنية الحكومية، قبل أن تساعد في تمكين تحول روسيا مؤخراً إلى سياسة الاكتفاء الذاتي، حيث يحد بلد ما التجارة الخارجية ويدفع نحو الاكتفاء الذاتي. وعلى مدار العقدين الماضيين، كانت نابيولينا لاعبا أساسيا فى فريق بوتين، وشملت مهمتها العمل في وزارة الاقتصاد وتقديم المشورة للرئيس بشأن السياسة، وإدارة المصرف المركزي منذ عام 2013. ونالت نابيولينا ثقة الرئيس الروسي لأنها تفتقر إلى طموحات سياسية، وتمثل أحد أبرز الصقور في مجال التضخم. وصفت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية، نابيولينا بالذراع الأيمن لبوتين، بسبب ثقته الكبيرة بها، لدرجة أنه يسير خلف قراراتها ويدافع عنها حتى أمام الدائرة المقربة منه. وخلال بداية الحرب، منح فلاديمير بوتين لسيدة البنك المركزي كامل الصلاحيات لمواجهة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وبالفعل كانت نابيولينا على قدر المسئولية. فقد فاجأت الغرب بتأكيد أحقية الشركات الروسية بتسديد مديونياتها لجهات مالية غربية بالعملة المحلية، وليس بالدولار، مما يعني أن الدول والشركات الغربية سوف تتضرر من جراء انخفاض قيمة الروبل أكثر بسبب العقوبات، اذ سمح هذا الإجراء بتقليل السحب من احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية. وبعد طرد العديد من البنوك الروسية من نظام "سويفت"، وفرض عقوبات على البنك المركزي الروسي أيضاً من قبل الولايات المتحدة، وتجميد الأصول الموجودة في الخارج، أُصيب الروس بالذعر واندفعوا إلى البنك، محاولين إخراج أموالهم قبل أن ينخفض الروبل أكثر. وردا على هذا الموقف، بدأت نابيولينا في حل المشكلة "بشكل جذري"، وسرعان ما رفعت سعر الفائدة القياسي للبنك المركزي من %9.5 إلى %20، على أمل ثَني الناس عن سحب الأموال من البنك. بعد ذلك، أعلن البنك المركزي الروسي عن الإفراج عن 733 مليار روبل من الأموال الاحتياطية الطارئة، والسماح للبنوك بتأجيل إعادة تقييم جميع الأصول للحفاظ على قيم الأصول عند مستويات عالية. هذه السلسلة من الإجراءات، التي اتخذها البنك المركزي الروسي، تهدف جميعها إلى الحفاظ على ملاءة البنوك ومنع التدفقات المصرفية على نطاق واسع بسبب انهيار الروبل. بعد ذلك، استقر زخم انخفاض قيمة الروبل مؤقتا. بعد ذلك، بدأت نابولينا في التعامل مع التضخم، منعتها العقوبات التي فرضتها الدول الغربية من بيع الاحتياطيات الروسية في الخارج لدعم الروبل، لذلك فكرت بطريقة مختلفة، وطالبت الشركات الروسية بشراء الروبل بنسبة 80 %من العملات الأجنبية. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت عن تطبيق ضوابط على رأس المال للحد من تدفقات رأس المال المحلي نحو الخارج، بما في ذلك القيود على المبلغ، الذي يمكن للمقيمين سحبه بالدولار من الحسابات المصرفية بالعملات الأجنبية، والقيود المفروضة على سحوبات العملاء الأجانب بعملات أجنبية معينة، إذ يحظر على الروس تحويل الأموال إلى حساباتهم المصرفية الأجنبية، كما أن مبلغ العملة الأجنبية، الذي يمكن سحبه خلال الشهر، يقتصر أيضاً على 10 آلاف دولار، كما لا تسمح شركات السمسرة الروسية للعملاء الأجانب ببيع الأوراق المالية. وفي مواجهة العقوبات المتزايدة التي تفرضها الدول الغربية، لجأت نابيولينا مباشرة إلى "الإجراء الرادع"، بربط الروبل وشركة مقاصة الطاقة الروسية معا، حيث أعلن بوتين في اليوم نفسه أن توريد الغاز الطبيعي إلى "الدول غير الصديقة" سيتم تسويته بالروبل، وطلب من البنك المركزي الروسي والحكومة صياغة المواصفات ذات الصلة لتسوية الروبل في غضون أسبوع. بعد ذلك، قام البنك المركزي الروسي بخطوة أخرى لربط الروبل بالذهب، معلناً أنه في الفترة من 28 مارس إلى 30 يونيو، سيشتري الذهب بسعر ثابت قدره 5 آلاف روبل للجرام، في خرق للقيود المفروضة على السيولة المصرفية. وبعد أن ضحت روسيا بـسلاحها القاتل، انتعش الروبل منذ 24 مارس. واعتباراً من أبريل، كسر أعلى مستوى له منذ نوفمبر من العام الماضي. تخرجت نابيولينا من جامعة موسكو سنة 1986، ثم عملت عام 1994 في وزارة التنمية الاقتصادية والتجارة حتى باتت نائبة الوزير عام 1997. بعدها بعشر سنوات سنوات، أي في سبتمبر 2007، تم تعيينها كوزيرة. بقيت في هذا المنصب حتى مايو 2012، لتصبح مساعدة الرئيس للشئون الاقتصادية. ثم باتت محافطة البنك المركزي في 2013. في أول سنتين لها كمحافظة، واجهت نابيولينا مشاكل كبيرة، منها أسعار النفط التى تتراجع بسرعة، عقوبات غربية على بلادها بعد ضم شبه جزيرة القرم ورأس المالي الأجنبي يفرّ إلى الخارج. كل ذلك ضغط بقوة على الروبل. كانت السياسة الرسمية آنذاك هي تعويم العملة الوطنية جزئياً، لكي يبقى الدولار مقابل 30 روبلاً. مع فرض العقوبات، باتت هذه السياسة مكلفة جداً. من يناير 2014 إلى نوفمبر من العام نفسه، حرق البنك المركزي الروسي 90 مليار دولار. ورغم صرف هذه المبالغ يميناً ويساراً، بقي الروبل في وضع غير مستقر. وبات أمام روسيا خياران لا ثالث لهما: إما الاستمرار بحرق الاحتياطيات كما فعلت عام 2008 عندما أنفقت ثلث احتياطياتها تقريباً للدفاع عن العملة الوطنية، أو التعويم الكامل للروبل ضد رغبة الناس. ورأت نابيولينا آنذاك ببساطة أنه من الأفضل ضخ هذه الأموال على الشركات الروسية التي عليها ديون بالدولار، بدل تركها تسقط وتفلس وينهار معها الاقتصاد الروسي. هذه الشركات كان يجب أن تسدد خلال الشهور الثلاث الأخيرة من عام 2014 نحو 60 مليار دولار! وفي نوفمبر 2014، تم تعويم الروبل بشكل كامل، مما أثار صدمة لدى المستهلكين. خسر الروبل 40% من قيمته عام 2015. ولكنّ الإجراءات المتخذة جنّبت البلاد الانهيار الاقتصادي. بالتوازي مع ذلك، بدأت نابيولينا ببناء احتياط البلد من النقد الأجنبي لتجنّب أي أزمة يمكن أن تستجد. في 2014 كانت الاحتياطيات الروسية تبلغ 385 مليار دولار، وفي فبراير الماضي وصلت إلى 643 ملياراً. أما احتياطات الذهب فزادت ووصلت إلى 2300 طن. وبفضل سياسات نابيولينا، تمكنت روسيا من السيطرة على معدل التضخم. فبعد أن وصل إلى 15% في 2015، تراجع عام 2020 إلى 3.4%، كما عاد المستثمرون بشكل ملحوظ إلى روسيا، وسبب ذلك بشكل أساسى هو ثقتهم بنابيولينا. مجلة "يورو مانى" اختارت نابيولينا عام 2015 كأفضل محافظ بنك مركزي خلال السنة. وعام 2017 اختارتها مجلة "ذا بانكر" كأفضل محافظ مركزي في أوروبا، وعام 2018 صنفتها " "فوربس" كواحدة من أقوى النساء فى العالم. ويشيد الكثيرون بإنجازاتها التي لخصها أحدهم في ثلاث نقاط، أولها إغلاق 500 بنك روسي من البنوك الضعيفة، وثانيها كبح جماح التضخم، وآخرها تحسين وضع الروبل الروسى فى حرب العملات أمام الدولار الأمريكى.
اترك تعليق