قال الشيخ إسماعيل الراوي الشيخ وكيل وزارة أوقاف جنوب سيناء مرحبا بشهر الخير والرحمة، شهر التوبة والغفران، شهر الذكر والقرآن، هذه هي الفرحة الكبرى، والنعمة المُثْلَى، والفضل الكبير، فمرحبًا به من شهر كريم، وموسم عظيم.
كيف لا يفرح المؤمنون الطائعون المُخْبِتون برمضان، وهو شهر يربُّون فيه أنفسهم على الصبر عن الشهوات، وتربية الإرادة، وتعزيز التقوى، وبعث الإيمان؟
كيف لا يفرحون وهم يستذكرون ما أعدَّه اللهُ فيه من الثواب الجزيل، والعطاء العظيم، ومضاعفة الحسنات، وتكفير الخطايا والسيئات؟
كيف لا يفرح المؤمن بصلاة التراويح، وفيها غفران الذنوب، وستر العيوب؟
كيف لا يفرح بليلة القدر، وهي خير من ألف شهر؟
كيف لا يفرح بشهر القرآن، والذكر، والتفكُّر، والتأمُّل، والروحانيات التي ينبعث أريجها في كل مكان، وانشراح الصدر، والطُّمأنينة، والخير، والفضل (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴿٥٨﴾) [يونس: 58].
يفرح المؤمنون بشهر رمضان، وتنشرح فوسهم، وتسمُو أرواحهم؛ فهو مدرسة للتربية وإعداد النفس، والتخلِّي عن عاداتٍ مستحكمة، واكتساب أنماط من السلوك فاضلة؛ متى كنا واعين بعظمة هذه الفرصة، مُدركين أثرها. ومع الإشادة بكل بادرةِ خيرٍ من مسلم، مهما دقَّت وجلَّت؛ فإن التغيير الذي تُحدثه العبادة يمكن أن يكون تحوُّلًا جوهريًّا، وليس التزامًا طارئًا، أو حالة عابرة.
التهنئة بالشهر:
في بداية الشهر يتبادل المؤمنون التهاني بدخوله بعبارات مختلفة مباشرة، أو عبر رسائل الجوال، أو غيرها، وبعضهم يختار عبارات جميلة، وألفاظًا عذبة، ودعوات مباركة، وتوصيات بالحق والصبر.
والتهاني من العادات السائغة عند تجدُّد نعمة أو دفع نقمة، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي:
«هذه المسائل وما أشبهها مَبْنِيَّة على أصل عظيم نافع، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز؛ فلا يحرَّم منها ولا يكره، إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمَّن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دلَّ عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره ابن تيمية وغيره... والعادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جدًّا».
وذكر ابن عَقِيل في تهنئة العيد أحاديث منها: أن محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبيﷺ، فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: تقبَّل الله منا ومنك. وقال أحمد: إسناد حديث أبي أمامة إسناد جيد.
وقال علي بن ثابت: سألت مالكَ بنَ أنس منذ خمسٍ وثلاثين سنة، وقال: لم يزل يُعرف هذا بالمدينة». ولا شك أن رمضان وقدومه من أفضل النِّعم.
الاستعداد لرمضان:
يستعد الناسُ لرمضان كلٌّ على طريقته:
* فمنهم مَن يستعد بإخلاص القلب، وتصحيح النية، والإقبال على العبادة، وتجريد القصد لله تعالى، والعزم على التوبة، وتأهيل النفس للانتفاع بروحانيات الشهر وإيمانياته، مع القرب من الصالحين والذاكرين.
* من الناس مَن يستقبل الشهر الكريم بالتسوُّق الطويل، وشراء الحاجيات من مآكل ومشارب وتوابعها، وهو قدر حسن إذا وقف عند حد الاعتدال، فإن التوسعة على النفس والعيال والأهل من خُلق الكرام، وإنما يُفرَح بالمال لإنفاقه وبذله، والكرم والسخاء في الجنة، والبخل والشح في النار.
بيد أن رمضان فرصة للقضاء على الروح الاستهلاكية الفاشية لدى المسلمين، خصوصًا الشعوب الغنية، والحال أن كثيرين يستعدون لرمضان وكأنهم مقبلون على أزمة خانقة.
إن العادات الاستهلاكية في الطعام والشراب والأجهزة والأدوات والسيارات والملابس وسواها تحتاج إلى تصحيح، وليس حسنًا أن يدخل المرء متجرًا لشراء غرض، فيخرج بعشرة أو عشرين، لمجرد أنه قد يحتاج!
علينا المحافظة على الثروة، سواء كانت مالًا أو ماءً أو نفطًا أو غيرها من الثروات الطبيعية التي هي للأجيال القادمة أيضًا، وقد قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَمُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴿١٤١﴾) [الأنعام:141].
إن الشهر الكريم فرصة للكبار ليتعلَّموا الاعتدال والتوازن في الشراء والتملك والأكل والشرب والاستعمال.
وفرصة لتدريب الصغار على ذلك، فمن طبع الإنسان أن يحتقر الأشياء التي امتلكها وتمتد عينه إلى غيرها، وتغيير الجهاز المحمول أو الجوال أو السيارة لمجرد ظهور منتج جديد ليس عملًا حَصِيفًا. والحفاظ على ثروات الأرض ضرورة حياتية ومستقبلية.
وهكذا متابعة الموضة أولًا بأول وتكديس الملابس لمجرد مجاراة ما تعرضه دور الأزياء العالمية هو ضياع للمال وإهدار لاستقلال الشخصية وحضورها.
تقول تقارير: إن المواطن الخليجي يستخدم ثلاثة أضعاف المعدل الطبيعي من الماء، وهذا إسراف، والله تعالى يقول: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) [الأعراف:31].
وفي الحديث أن النبيَّ ﷺ مرَّ على سعد بن أبي وقاص، وهو يتوضَّأ، فقال: «ما هذا الإسراف؟». فقال: أفي الوضوء إسراف؟! قال: «نعم، ولو كنتَ على نهرٍ جارٍ».
وتؤكِّد تقارير أخرى أن شعب المملكة يستهلك من الشاي والأرز ما تستهلكه دولة سكانها مائة مليون نسمة.
وتشير تقارير محلية إلى أن (50 %) مما تقوم الأسر بإعداده من الطعام مصيره صناديق النفايات، وأن (30 %) من الناس لا يبحثون عن الفقير، ولا عن الحيوانات لإطعامها، ولا عن الجمعيات المتخصِّصة في توزيع فائض الأطعمة!
وعادة ما يصحب هذا الإقبال على الشراء الرمضاني جشع ورفع للأسعار، مما يوجِب تشديد الرقابة على المحلات، ومعالجة الارتفاع غير المسوَّغ في أسعار السلع المستهدفة، مع دعم السلع الضرورية التي تمس الحاجة إليها.
ويحسن تذكير الباعة والتجار بتقوى الله والحرص على الكسب الحلال الطيب، ولو كان قليلًا، فيبارك الله فيه، ويزيده وينميه.
* ومنهم مَن يستعد لرمضان ببرامج خاصة، كما في القنوات الفضائية والإذاعات والصحافة والمواقع الإلكترونية-وكلٌّ ينفق مما عنده-ما بين برامج هادفة ومنضبطة تبني القيم والأخلاق الكريمة، وأخرى تستهدف الربح المادي على حساب المبادئ الجوهرية، أو تستغل إقبال الناس للمنافسة على صناعة الإثارة التي لا تستثني المقدَّسات ولا تحتفل بمشاعر الآخرين، ولا تراعي حرمة الشهر وقدسيته.
* ومن الشباب مَن يستعد لرمضان بالبرامج الكروية والدوريات الرياضية، ويرتبط رمضان عندهم بالملاعب المضاءة، والجماهير المحتشدة، والحماس الملتهِب، وقد يمتد السهر إلى السُّحور، وأحيانًا يواصل بعضهم إلى طلوع الشمس، في تجمعات متنوعة الأغراض.
لكن المذموم شيئان:
- الإسراف والمبالغة وإضاعة الأوقات.
- وضع الشيء في غير موضعه.
قوة البدن من مقاصد الشريعة، والترفيه المنضبط لا تثريب فيه، بيد أن لكل شيء حدودًا، ولكل وقت وظيفة مناسبة.
وإذا سهر الشاب ليله كله في اللعب أو المشاهدة، فماذا عساه أن يصنع في نهاره؟! هل سيجد عزيمة ونشاطًا في قراءة أو درس أو عبادة أو عمل؟!
إن رمضان فرصة لكسر روتين الحياة، ولذا فهو موسم للتغيير الإيجابي، والمؤلم أن يوظَّف هذا المعنى لنقيض ما هو مأمول، وأن تضاف عادة جديدة سيئة إلى سجل عاداتٍ مُبَرْمَجَةٍ في النفس، وهي عادة السهر الذي يؤثِّر على خلايا المخ، ويُذهب نضارة الوجه، ويُحدِث آثارًا سلبية على الجلد والجسم، بل على العقل والروح، ويكدِّر صفو الإنسان وسعادته واستمتاعه، والله تعالى يقول: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) [النبأ:9-11].
الغريب أن العواصم الإسلامية تسهر كثيرًا، وعواصم العالم تنام مبكرًا، والمقارنة بين طوكيو وواشنطن ولندن، وبين الرياض ودبي والقاهرة، تُظهِر فرقًا ضخمًا، وبعض المدن تسهر حتى الفجر في رمضان وفي غيره، وجدير بالمسلم أن يحقِّق معنى الصيام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) [البقرة:183].
فإذا لم يدع قولَ الزور والعملَ به، وشهادةَ الزور، واللغو والرفث؛ فليس لله تعالى حاجة أن يدع طعامه وشرابه.
وبهذا يُعلم أن الصوم لله في نيته وقصده وأجره، ولكنه للعبد خالصًا في ثمرته وعائدته وفائدته، وكل العبادات فالله عنها وعن أهلها غني (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الزمر:7].
اترك تعليق