بقلم الزهراء السيد
لم تكن الإنسانية يومًا أمنية شاعرية أو فكرة مثالية تهفو إليها النفوس، وليست حبرًا على ورق سطرته بعض الأقلام، إنها عقيدة راسخة دعت إليها جميع الرسالات الإلهية والعماد الذي ارتكز عليه رسول الإسلام ونبي السلام في دعوته إلى الله حين أكد في خطبة الوداع أن "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى".
وبهذه الروح الطيبة التي ألفت بين القلوب وجمعتها على كلمة سواء، شهد العالم في مطلع شهر فبراير لهذا العام حدثًا تاريخيًا لا يصنعه إلا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، رجالًا يؤمنون أن التعددية وتنوع الدين واللون والجنس هي إرادة إلهية حكيمة وسنة كونية "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"، رجالًا يدركون جيدًا ماهية الوجود الإنساني وهي الفكرة الجوهرية التي أشار إليها القرآن الكريم في آية التعارف "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".
فعلى أرض التسامح والتعايش الإنساني، على أرض زايد الخير والعطاء والكرم، على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة التي جمعت تحت رايتها العديد من الجنسيات والأعراق البشرية والأديان، وفي ضيافة سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي، تم إطلاق "وثيقة الأخوة الإنسانية" تلك الخارطة التي تؤكد على وحدة الخطاب الإلهي في تعزيز التعايش بين جميع الشعوب ونبذ العنف.
وإطلاق تلك الوثيقة من أكبر قيادتين دينيتين في العالم، فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر، وقداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وفي حضور تمثيل ديني من مختلف أرجاء العالم، له العديد من الدلالات التي تحظى بقدر كبير وعظيم من احترام وتوقير معنى الأخوة الإنسانية، وتضع بداية النهاية لكل من تسول له نفسه أن يضع الدين سببًا لأي حروب أو صراعات. فالإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، وعليه فأن البشر يستحقون العيش في كرامة، وأننا جميعًا مع اختلاف أعراقنا ومعتقداتنا يجب أن نسير معًا إلى الله في صنع السلام.
جاءت كلمة الإمام الأكبر نبراسًا يُهتدى به ودستورًا يُدرس لجميع الأجيال على مختلف العصور؛ وبداية كلمته بـ "أخي وصديقي العزيز/ قداسة البابا فرانسيس – بابا الكنيسة الكاثوليكية" دلالة على الأخوة والصداقة والعلاقة الوطيدة التي تربط بين إنسان وصديقه دون النظر للدين، حيث أكد فضيلته على أن الأديان الإلهية قد أجمعت على تحريم الدماء وأنها بريئة كل البراءة من الحركات الإرهابية، وأن الحروب التي اندلعت باسم الدين ما هي إلا أداة يستخدمها البعض لتأجيج الكراهية والتعصب الأعمى.
وبداية قول قداسة بابا الفاتيكان "بالسلام عليكم" دليل كافي على احترام الآخر، دليل على أن السلام هو رسالة كل الأديان، دليلًا على قدسية كل حياة بشرية وضرورة حصول الجميع على المساواة في الكرامة والبحث عن التآلف في التناقضات والأخوة في الاختلاف. ودعوته للشباب إلى عدم الاستسلام للكراهية والأحكام المسبقة والدفاع عن حقوق الآخرين بالحماسة نفسها التي يدافع فيها المرء عن حقوقه، كل هذا يعتبر تأكيدا على المسئولية التي تقع على عاتق الديانات من تجريد قلب الإنسان من السياسات العدائية، فالحرب لا تولد إلا البؤس والأسلحة لا تولد سوى الموت.
هذا التناغم الذي جمع بين أكبر رمزين دينيين بحضور العديد من القادة الدينيين هو تفعيل لحقائق السلام وتعزيز لقيم الحوار والعيش المشترك. هذه المحبة والصداقة العميقة أيضًا هي التي جمعت بين شباب منتدى صناع السلام الذين حظى بعضهم بشرف حضور وتنظيم مؤتمر الأخوة الإنسانية، وأتحدث هنا كوني شرفت – مع مجموعة من شباب صناع السلام - بحضور وتنظيم جزء من فعاليات المؤتمر، فشاركنا في تنظيم ورش العمل التفاعلية وتوفير اللوجستيات اللازمة لتيسير التواصل والتفاعل بين الحضور، وقد كنّا نعمل معًا في شغف وحماس للمشاركة في إرساء السلام بين جميع الأطياف المختلفة، ولرغبتنا المُلحة في ظهور مؤتمر "الأخوة الإنسانية" في أبهى وأرقى صوره. ومن أهم ما شجعنا هناك وجعلنا نلمس العمل على أرض الواقع هو تحاورنا مع الكثير من القادة الدينيين حول العالم من أصحاب الديانات السماوية والوضعية؛ حيث تأصلت أواصر الاتصال والتفاهم بيننا واتفقنا جميعًا على قدسية الإنسان وأننا على الرغم من اختلاف معتقداتنا وتوجهاتنا وأعراقنا المتنوعة، بشر تجمعنا صفات ومبادئ إنسانية واحدة فطرنا الله عليها. هذا التواصل المثمر بين الشباب والقادة الدينيين وجلوسنا معًا على مائدة واحدة هو الحلم الذي حرص عليه فضيلة الإمام للخروج من دائرة الخطاب الديني المقتصر على الزعماء الدينيين ومشاركة الشباب في عملية تجديد الخطاب الديني وصنع القرار.
ولن ينسى التاريخ منح سمو الشيخ محمد بن زايد جائزة الأخوة الإنسانية في دورتها الأولى لكل من فضيلة الإمام الأكبر وقداسة البابا؛ وذلك تقديرا لجهودهما العظيمة المتتالية في نشر السلام في العالم، فضلًا عن توقيع سموه حجر أساس لبناء جامع باسم الإمام الطيب، وكنيسة بإسم البابا فرانسيس؛ هذه بعض العلامات التي تعد دليلًا لتخليد تلك الزيارة ولتفعيل معنى الأخوة الإنسانية من خلال اتخاذ قرارات فعلية وليس مجرد حبر على ورق.
هذا الحدث يعد من أهم الأحداث في هذا القرن، بل ويعتبر ميثاقا عظيما لوقف أعمال العنف والقتل والاعتداء على الآخر، والتأكيد على احترام الإنسان، واعتبار كل البشر "أخوة في الإنسانية".
اترك تعليق